المشكل ليس في البخاري ومسلم.. المشكل في العقل العلماني المتطرف رضوان نافع

في هذا المقال ستكون لي وقفات ورد علمي على شبهات كويتب (آخر ساعة) التي ضمنها ما سماه بيان حقيقة ونشرته هسبريس، وغيرها، ولخص فيه مبلغه من العلم فيما يدعيه من نقد للتراث. وهو في حقيقته طعن في السنة وأئمة الاسلام وتعريص برسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا الجاهل صدر مقاله بالحديث عن الإسلام السياسي وجعله من أسباب وضع الحديث، والعلمانيون يقصدون بالإسلام السياسي ما تستند إليه الحركات الإسلامية التي تؤمن بشمولية الشريعة من مرجعية إسلامية في السياسة وتسيير الدولة عموما.
فهذا الجاهل يرمي الأحكام جزافا، ويتهم أئمة الإسلام الذين دونوا السنة بالوضع، وينسف علوم الأمة العظيمة التي بنى عليها العلماء نقد الحديث، وجعل كل ما يخالف توجهه العلماني مكذوب على الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه من الأعاجيب المضحكات، لقد جعل لنا العلمانية المشؤومة هي الميزان، والغربال الذي ينخل به التراث الإسلامي، وهذا يجب أن نسطر تحته بخط ثخين؛ فهذا الناقد النحرير لم يستند إلى القواعد العلمية والجدلية في نقد التراث كما يدعي، وإنما بنى نقده على الاتهامات العريضة لأئمة المسلمين، بل يدعي هذا الأفاك أن كل ما وصلنا من السيرة النبوية مما له تعلق بالسياسة مكذوب ومسيس!!! وغرضه من كل هذا ضرب “الإسلام السياسي” خدمة لحزبه العلماني الذي يعمل لحسابه.
سأقف بعجالة مع أدلة هذا الكائن المزعومة لنبين كذب ادعائه بوجود الموضوعات في الصحيحين، وسنبين تدليسه وجهله وكذبه الصريح في غير ما موضع.

هل في إثبات سحره صلى الله عليه وسلم إساءة أو تنقيص؟!
أول دليل استدل به هذا الكائن مما يزعم أنه موضوع لأنه يسئ إلى النبي صلى الله عليه وسلم هو حديث سحر النبي صلى الله عليه وسلم، وأنقل ها هنا كلاما للإمام ابن القيم رحمه الله يوضح بجلاء بأن هذا الحديث ليس فيه منقصة للنبي صلى الله عليه وسلم، وأن تشغيبه لا وزن له في ميزان العلم والشرع.
قال ابن القيم رحمه الله: “قد أنكر هذا طائفة من الناس، وقالوا: لا يجوز هذا عليه، وظنُّوه نقصاً وعيباً، وليس الأمر كما زعموا، بل هو من جنس ما كان يعتريه من الأسقام والأوجاع، وهو مرض من الأمراض، وإصابته به كإصابته بالسم لا فرق بينهما) “زاد المعاد” (4/124).
قال القاضي عياض: “والسحر مرض من الأمراض، وعارض من العلل، يجوز عليه كأنواع الأمراض مما لا يُنكر، ولا يَقدح في نبوته” ذكره ابن القيم في الزاد.
فالعلماء لا يرون في هذا الحديث إساءة للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ إذ السحر لا تأثير له على تبليغه للرسالة والوحي، وابتلاؤه صلى الله عليه وسلم بمثل هذا فيه حكم لا تدركها العقول العلمانية المنتكسة.
وسأذكر هنا مسألة دقيقة وفائدة فتح الله بها أرجو من العقل العلماني المتكلس أن يعيها وهي مسمار ثخين في نعش هذه الشبهة المتهافتة:
يقول الله عزو جل في محكم التنزيل: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم) [الحج 52].
قال البغوي رحمه الله: “أكثر المفسرين قالوا: معنى قوله: (تمنى) أي: تلا وقرأ كتاب الله تعالى، و”ألقى الشيطان في أمنيته” أي: في تلاوته، قال الشاعر في عثمان -رضي الله عنه- حين قتل: تمنى كتاب الله أول ليلة وآخرها لاقى حمام المقادر”.
قلت: لئن جاز أن يلقي الشيطان في شيء من الوحي ما يأذن الله به، ثم ينسخ الله ما يلقي الشيطان، وينفيه عن وحيه ويحكم آياته، فجواز تسلط الشيطان على ما هو دون الوحي من أحوال الأنبياء من باب أولى، ثم ينسخه الله هو الآخر ويدفعه عن أنبيائه، وله في كل ذلك حكم بالغة. فيظهر مما سبق أن سحر النبي صلى الله عليه وسلم ووروده في الصحيحين شبهة باردة، ولا حجة فيها لعلماني ولا لغيره للطعن والقول بأن فيهما موضوعات.
وهذا أول حجر ننقضه في بنيان شبهات المتطرف العلماني وأمثاله.

هل صحت قصة مارية القبطية؟
الدليل الثاني الذي أقامه على دعواه المتهافتة هو قصة وطئه صلى الله عليه وسلم لجاريته مارية ببيت حفصة، وقد ساق الحديث بسنده دون ذكر من أخرجه موهما القارئ أن هذا من رواية البخاري أو مسلم، وهذا الحديث بالسند المذكور في سنن البيهيقي كتاب (الخلع والطلاق)، باب (من قال لأمته أنت علي حرام لا يريد عتاقا). وهو حديث لا يصح عند الحفاظ مرفوعا، وأما المرسل الذي ذكره البيهقي عن الحسن فلا يخفى أن المرسل من أصناف الحديث الضعيف لا سيما أنه جاء عن الحسن رحمه الله.
قال الحافظُ ابنُ حجرٍ: “مراسيلُ الحسنِ عندهم واهيةٌ، لأنه كان يأخذُ من كلِ أحدٍ” ا.هـ.
قال الخازن: “قال العلماء الصحيح في سبب نزول الآية أنها في قصة العسل لا في قصة مارية المروية في غير الصحيحين، ولم تأت قصة مارية من طريق صحيح”.
قال النسائي: “إسناد حديث عائشة في العسل جيد صحيح غاية، “انتهى.
وهو في الصحيحين وغيرهما وقد أعرض عنه هذا الكاتب وتمسك بشبهته الواهية. ولكن للأمانة العلمية ننقل هنا كلاما لابن حجر رحمه في التلخيص الحبير:
“وبمجموع هذه الطرق يتبين أن للقصة أصلا، أحسب، لا كما زعم القاضي عياض أن هذه القصة لم تأت من طريق صحيح، وغفل -رحمه الله- عن طريق النسائي التي سلفت فكفى بها صحة، والله الموفق” اهـ.
وما أشار إليه الحافظ من رواية النسائي هو ما رواه عن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها، فلم تزل به عائشة، وحفصة حتى حرمها على نفسه، فأنزل الله عز وجل: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك} إلى آخر الآية. رواه النسائي. قال الشيخ الألباني: صحيح الإسناد.
لكن نشير هنا إلى أنه حينما يقول العلماء أن للحديث أصلا فهذا يعني أن بعض المعنى في الحديث ثبت في رواية صحيحة، لا أن كل ما بهذا الحديث ثابت، والأصل الصحيح هنا رواية النسائي، ويظهر جليا أن ما ادعاه ذلك الأفاك من الإساءة إلى النبي صلى الله عليه وسلم غير موجود بهذه الرواية.
وأنا أخاطب هذا الكويتب: إن كنت تدعو الناس إلى اعتبار هذا الحديث ضعيفا لإساءته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فالحمد لله العلماء قد ضعفوه ولم ينتظروا افتئات العقلية العلمانية على علوم الشريعة.
وإن كنت إنما تريد الطعن في البخاري، وهذا غرضك الحقير حتما فهذا الحديث ليس في البخاري ولا في مسلم ولا في كثير من كتب الصحاح، وتدليسك فضحك؛ فخاب سعيك وسلمت الصحاح وأرغم أنف الجاهل.

كذب هذا الكاتب الأثيم على عائشة أم المؤمنين
يدعي الكويتب المذكور أن الحديث الذي في البخاري وغيره الذي يتضمن قول عائشة رضي الله عنها (ما أرى ربك إلا يسارع في هواك) يفيد أن عائشة ترمي النبي صلى الله عليه وسلم بوضع الوحي، وهذه شبهة نصرانية باردة تلقفها هذا الكاتب، ويخيرنا بين أن نعتقد أن هذا الحديث وهو في الصحيحين مكذوب، وبين أن نقر بمضمونه وما فيه من إساءة للنبي صلى الله عليه وسلم، ومن إثبات لقول كفري صادر عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
نعم هذا القول ثابت عنها رضي الله عنها، لكن لو سمعه أعجمي خالط العرب لما فهم منه إساءة بله عربي فصيح يعرف أساليب العرب وبلاغتهم، ومعناه كما قال ابن حجر: (أي ما أرى الله إلا موجداً لما تريد بلا تأخير، منزلا لما تحب وتختار).
والهوى في كلامها رضي الله عنها على أصله في لغة العرب، وليس فيه أي تنقيص أو إساءة، إذ يطلق ويقصد به ميل القلب المطلق، والنبي -صلى الله عليه وسلم- لا يميل إلا إلى خير ومباح صلوات ربي وسلامه عليه.
قال ابن رجب -رحمه الله-: «وقد يطلق الهوى بمعنى المحبة والميل مطلقًا، فيدخل فيه الميل إلى الحق وغيره، وربما استعمل بمعنى محبة الحق خاصة والانقياد إليه» (جامع العلوم والحكم).
قلت: بل كلامها هذا رضي الله عنها يقيمه العلماء دليلا على هذا المعنى إذ هي ممن يحتج بكلامه.
ومما يؤكد هذا الأمر ويزيل أدنى شك أو احتمال لصحة دعواه قولها في قصة زواجه من زينب بنت جحش رضي الله عنها: (لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه) تقصد قوله عز وجل: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ).
فهل من تقول مثل هذا تتهم بعده أنها تلمزه صلى الله عليه وسلم بوضع الوحي ؟!. كبرت كلمة تخرج من أفواهكم يا أبواق العلمانية.

هل في إثبات طواف النبي على نسائه بغسل واحد إساءة إليه؟!
ويستمر العلماني الجاهل في إيراد شبهه معرضا بالجناب الشريف صلى الله عليه وسلم أو طاعنا في ناقلي سنته صلى الله عليه وسلم، حيث ساق حديث طوافه على نسائه في ليلة بغسل واحد، وعلق عليه بكلام سيء جدا، وهذا الجاهل الحاقد يؤز القارئ ويدفعه إلى اعتقاد أن هذه الأحاديث التي ساقها تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن همه إلا النساء والشهوة، ويصور ما جاء فيها من وقائع على أنها حال دائمة ملازمة للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو مغالطة وتعريض خبيث.
وهذا الحديث عند العقلاء قبل العلماء ليس فيه أي إساءة أبدا، فالنبي صلى الله عليه وسلم جعله الله أسوة للأمة في كل شيء إلا ما اختص به، قال تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله والبوم الآخر وذكر الله كثيرا)، فما كنا لنعلم جواز وطء الرجل لنسائه بغسل واحد لولا هذا الحديث، ولثبوته، فقد أطبق العلماء على العمل به، فقد حكى غير واحد من العلماء الإجماع على جواز الطواف على الأزواج بغسل واحد.
قال ابن بطال رحمه الله: “لم تختلف العلماء في جواز وطء جماعة نساء في غسل واحد على ما جاء في حديث عائشة، وأنس” انتهى من شرح “صحيح البخاري” لابن بطال (1/381).
وهناك من يورد إشكالا أو شبهة على الحديث متعلقة بالقسم بين النساء وأن الفقهاء متفقون على أن أقل القسم ليلة، فكيف يطوف على نسائه في ليلة واحدة؟!
وجوابه من وجوه أحسنها أنه صلى الله عليه وسلم إنما كان يفعل ذلك حين قدومه من أسفاره، وقبل أن يبدأ القسم بينهن.
قال ابن عبد البر رحمه الله: “وهذا معناه في حين قدومه من سفر أو نحوه، في وقت ليس لواحدة منهن يوم معين معلوم، فجمعن حينئذ، ثم دار بالقسم عليهن بعد -والله أعلم- لأنهن كن حرائر وسنته -عليه السلام- فيهن العدل في القسم بينهن، وألا يمس الواحدة في يوم الأخرى”. انتهى من “الاستذكار”(1/263).
وهذا التوجيه غاية في الحسن، فهو يدل على أن هذا كان قليلا في فعله ليس كما يصور هذا الأثيم أنه حاله الدائم، ثم إن فيه حكما منها أنه حين قدومه صلى الله عليه وسلم تكون أزواجه مغيبات ويستوين في هذا كلهن، وقد تتشوف كل واحدة منهن لمبيته صلى الله عليه وسلم عندها، فكان طوافه عليهن في ليلة من حسن العشرة، ومراعاة المصلحة. وهذه التوجيهات والحكم لا يدركها العقل العلماني طبعا.

الرد على طعنه في معاوية وأئمة الحديث
في آخر مقاله ينثر هذا الأثيم اتهامات وأكاذيب للطعن في الصحابي الجليل معاوية رضي الله عنه والتشكيك في فضله الثابت في الأحاديث وقد أورد منها ثلاثة؛ واحدا منها عند الترمذي والثاني عند أحمد والثالث عند البخاري وادعى أنها أحديث وضعها المحدثون إرضاء لبني أمية، فلا يجد هذا العلماني الكذاب غضاضة في الطعن في أجلة أئمة الحديث من أمثال الأمام أحمد والبخاري ومسلم، بل وقاء كلاما خبيثا مآله إسقاط السنة النبوية بالكلية.
ولإثبات فضائل معاوية رضي الله عنه، يكفي أن نرد إفكه ورميه للأئمة بأنهم وضعوا الحديث لبني أمية، فإذا ثبت كذبه في هذا، فقد ثبتت فضائل معاوية رضي الله عنه وعن باقي الصحابة.
ويقول هذا الأفاك أن سبب عدم ورود فضائل معاوية في الصحيحين بكثرة أنهما كانا على عهد بني العباس، ولا حاجة حينها لوضع الحديث لهم وهذا سفه وسفالة، فقد أعرض عن السبب الوحيد لعدم إخراج البخاري ومسلم أحاديث في فضائل معاوية خرجت في غيرهما، وهو كون هذه الأحاديث ليست على شرطهما.
فالبخاري في صحيحه أفرد بابا لمعاوية رضي الله عنه في “كتاب فضائل الصحابة” قال: (باب ذكر معاوية رضي الله عنه)، وذكر فيه ثلاثة أحاديث قصار، فلو كانت أحاديث فضائل معاوية على شرطه لأثبتها، وهذا يؤكد صدق هذا الإمام وجلالة قدره في العلم والفضل والعدالة لا كما يصور هذا الكذاب، ويتهمه بالوضع، والذي يؤكد أن السبب في عدم تخريجه لفضائله رضي الله عنه هو عدم كونها على شرط كتابه، أنه روى فضائله في باقي كتبه؛ ذكرت بعضها في أصل هذا المقال.
وأقبح ما قاءه هذا المفتري ما قاله في شأن الأمام أحمد رحمه الله، قال بأنه لم يجد طريقة ينتقم بها من العباسيين الذين امتحنوه إلا وضع الحديث في فضائل بني أمية، ألا لعنة الله على الكاذبين. أيضع الإمام أحمد الحديث وقد صبر على ما لا يصبر عليه أحد من السجن والجلد والتعذيب ليقول كلمة واحدة (القرآن مخلوق)؟!
وكان يسعه أن يأخذ بالرخصة فيعرض كما عرض غيره من الأئمة، أو يصرح تصريح المكره كما صرح غيره، لكنه صبر على بلاء عظيم حتى لا يقول على الله ما لا يعلم، وكان يردد إيتوني بآية من كتاب الله أو شيء عن رسول الله أقول به. ثم إن الإمام أحمد صنف المسند قبل محنته وهذا يكذب تماما زعمه الخبيث.
وأختم ردا على هذه الفرية بالقول بأن إمامة الأمام أحمد والبخاري مسلم وأصحاب السنن قد أطبقت عليها الأمة، ولم يرمهم أحد قط من أهل العلم بما رماهم به هذا الأفاك، وذلك أن نقد الرجال والحديث له قواعده وعلومه ورجاله.
فكان هؤلاء الأئمة نجوما في سماء العدالة والمروءة بل والإمامة في الدين، فلم يغمز فيهم أحد بشيء يخرم مروءتهم بله عدالتهم، أفنترك إطباق العلماء على عدالتهم ونأخذ بتجريح علماني حاقد متشبع بشبه النصارى يضرب بعلوم الحديث كلها عرض الحائط ويعرض عن المنهج العلمي في نقد الحديث ورجاله؟!
ولولا أنه بث هذه الفرى وسط الناس لما رددنا عليه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *