الشيخ والراعي وحكاية الضمة العجيبة عبد المغيث موحد

تبدأ فصول الأسطورة القصيرة المبنى، الغريبة المعنى، من قول الناقل الحكواتي: “أن جماعة من البدو المغاربة زاروا الولي الصالح محمد الشرقي زيارة تبرك به وشكوى له، من شح القراء وانعدام حفظة كتاب رب الأرباب، مما كان يعيق إقامة بدعة عمر اللغوية صلاة التراويح، فسألهم الولي: أبين ظهرانيكم راع يرعى غنما؟ قالوا: بلى، قال: علي به، فلما جاؤوا به، قربه منه، ثم ضمّه ضمّة كادت أضلاعه تختلف من قوة الضغط، ثم أرسله، فقال الحكواتي إشارة إلى الراعي محل “الضمة المباركة”: فصلى بنا تلك الليلة الرمضانية بختمة”.
هذا هو مضمون الخرافة، تصرفت فيه بالقدر الذي يصيب المبنى ولا يقدح في المعنى، فتعمدت أن أنبز الراوي بالحكواتي استجابة لمطلب المقام والمقال، وإشارة رمزية لمصدر من مصادر التلقي، وأسلوب من أساليب التشريع العتيقة التي فرط فيها جيل الأحفاد المتعصبين، ورموها بتركتها العجيبة ظهريا، واستعاضوا عنها بالتنطع والبدل والتكلف، وشد الرحال على كل ضامر إلى ذلك الشرق الرهيب المخوف، من أجل الأخذ بكلفة ومشقة، بينما كانت ضمة الأولياء تفي بالحاجة التي استوعب بثها بين الثلة الخيرة من العمر الشريف لسيد الأنبياء ثلاثة وعشرون سنة.
ولذلك فحري بمن تشرب قلبه هذه الترهات، وهو يسعى اليوم إلى النفخ في رمادها البارد المتصلب أن يرفع مقام الولي فوق مقام النبي، وأن يبني قواعد المفاضلة والإيثار بين الذي بات عنده مستصغرا مرجوحا أخذه رواد المدرسة السلفية بسند يشوب حلقاته الموت يجتر الميت عن الميت زخما مباركا، وحظا وافرا، وبين الكشوفات والتشوفات التي تصل من حي لحي، فيأخذها ليبشر بها المريدين، ويطمئن بها نفوس الفقراء المتشوقة إلى سحل أنا النفس الأمارة على رغام الزهد وحصباء الرهبنة، والمتشوفة إلى رحابة علم الحقائق وفيضها الروحاني.
وحقيق بمن يصب اليوم في حوصلة الهيكلة والتجديد من مال الوقف، ويسمح بنزيف مخزون المحبسين المحسنين لتنميق الكتب وطبعها في أبهى الأشكال، تحوي بين دفتيها أساطير الأولين، وكهانة الكهانين، وحكاوي المجانين، وخرافات المجاذيب، وأوراد الشياطين، وكذا إعادة ترميم القواعد المترهلة لفلسفة التألي على الله، قواعد وأساطين وجدران القباب والأضرحة والزوايا التي يؤمها أهل الله وأصفياؤه من خلقه أجمعين، ليبشرهم صاحب التفويض “التيوقراطي” بلسان الأحوال والمنامات والأسرار الغيبية التي لا تحيد بزعم القوم عن سبيل وحي المرسلين، ونبوءة النبيين..
حقيق به أن يقف وقفة اليقظ المصلح الذي أناط به مجمع سيد شيكر، وفوضته مشيخة الداخل والخارج للتصدي لدعوة التوحيد الوافدة من أرض النبوات، والتي تروم اعتسافا صفصفة ما علا من المشاهد، ودكِّ أهرامات القبورية ذات الطابع المحلي والتأثير الكوني.
حقيق به أن يخشى على تراث صحابة الخيال، السادة سبعة رجال، الذين كلمهم النبي العربي الأمي باللهجة البربرية، فتكتمت عن هذه المعجزة حسدا وظلما أقلام المشارقة التي حبرت سيرة سيد الخلق، وتعاطت لسير الأعلام النبلاء من بعده، ثم عهدت بعد هذا التكتم إلى الجيل الذي تربى في كنف فكرها المتطرق بالزعم الصوفي، وفلسفة التشوف القطبي بمهمة استئصال شأفة الفكر الديني المغربي ذي النزعة القطرية المتعصبة للخلطة العجيبة، خلطة السالك ومالك والأشعري، وضرب الطرح الذي مفاده أن الشرق إذا كان أرض الرسل والأنبياء، فمغربنا أرض الأقطاب والأولياء.
وكما أنه حقيق بمن يوثر الولي أن يقترف كل ذلك، فإنه حقيق بمن يتبع النبي ولا يؤمن بهذا الفكر وخرافاته النكرة، وحكاية الضمة الخرافية والأساطير المنكرة أن يفتح باب الافتراض الاستشرافي الذي تعلمنا أدبياته من علم الرياضيات للبرهنة على التساوي بين المتساويات، والاختلال بين المتفاوتات، لنفترض مسبقا صحة هذه الحكاية حكاية الضمة العجيبة، ثم نسقي افتراضنا بطأطأة الرأس امتثالا لمتساوية طرفاها ترديد صلاة الفاتح التيجانية ترديدا واحدا يعدل ست ختمات كاملة من تلاوة مصدر التشريع الأول عند أهل الأصول، ونخضع هذا الخليط لدرجة حرارة ألفية لهيبها ترديد ضمير الغائب “هو هو” في حلقات الحضرة الصوفية، ثم نحيط الأدبيات الروحانية لهذا الترديد بسياج ردع مفاده استدلالهم للتنقيص من الأركان الخمسة للإسلام بقوله تعالى: “وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ”، فإذا ما استشكل عليك هذا من ذاك، فاستعن بدليلهم، قوله تعالى: “فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً”.
ثم إذا حصل الانبطاح والخضوع فآمن بامتياز صكوك الغفران المحشورة بلطف وتضرع ومسكنة تحت الفراش الوثير لشيخ الطريقة، فراش يؤسس لزهد حضاري معاصر، ثم سلّم بشرعية الذبح عند الزوايا والمشاهد والأضرحة، وأعرض عن السفر المخصوص بوقفة عرفة إلى شدِّ الرحال إلى حج بني مشيش، وامتياز التمسح بجدران الأضرحة، والطواف حول حفرها ذات الامتياز النوعي، وأعرض عن علم الشريعة وميراث النبوة فإنه علم الأغمار والعوام، وانتظر بعد هذا الإعراض جحافل الكشوفات والمنامات التي تجود بعلم الحقائق الواصلة الموصلة إلى درجة الإغراق والفناء، حيث الروض النوراني، والفيض الرحماني الذي يحرر المريد السالك من عبء التعاطي لمكرهة سجود الجارحة وركوعها، وإمساكها عن شهوة البطن والفرج، وتطويع عقبة شحها بفريضة الزكاة وفضيلة الصدقة، فكل هذا عند القوم شكل شاغل، وسوء أدب تأباه شدة القرب..
وعند عتبة هذا الافتراض، ما عليك أخي إلا أن تجتر هذه الامتيازات السرابية محتملا توقعا راجحا، وأن هذا الفكر اللقيط قدر له بإرادة كونية بسط نفوذه اعتقادا بالجنان، وعملا بالأركان، ودعوة باللسان، ومنافحة بالسنان، حينها فقط تستطيع أن تفك الكثير من الألغاز، وهالة هذا التطبيل والتزمير الذي يزف وليد سفاح الجاهلية، هذا إلى الواجهة وتصدره بالقصد الملغوم إلى مقدمة الثخوم العقائدية المحروسة التي بنى قواعدها سيد الخلق ليلا ونهارا، سرا وجهارا، تصدره ليكون بديلا عن الميراث المبارك الذي لم يقبل في الحق مساومة، ولم يرض عنه بأنصاف الحلول، سبيله واحد أوحد على جنباته سبل كثيرة على رأس كل سبيل منها شيطان من شياطين الإنس يدعو إلى إرسال قشيب، ونبأ قريب، فالله المستعان، وعليه التكلان في حفظ هذا الدين، وإعادة غرسه إلى واجهة التمكين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *