رمضان سيرحل ومعه ذكريات أحمد اللويزة

لحظات وسيرحل رمضان وأياما وسيلوي راجعا من حيث أتى؛ إنها لحظات الفراق؛ تهز كيان المحبين وتحرك أشجان العاشقين، دموع الشوق تبل الثرى وآهات ألم الفراق تملأ الآفاق، يتساءلون هل سيعود رمضان ويلقاهم في استقباله لينعموا بنسماته الروحية ونفحاته الإيمانية؟ وهل سيعود ليقابلوه بالأحضان فيملؤا أيامه ذكرا وقراءة للقرآن وصلاة على النبي العدنان، ويملؤا لياليه قياما وتهجدا ودعاء وقنوتا وخشوعا للملك الديان؟

سيذهب رمضان وهو يذكر محبيه بالخير، سيذكر عمار بيوت الله والمتسابقين إلى الصفوف الأمامية ليطربوا الآذان ويهزوا القلوب بقراءة عذبة شذية، سيذكر تزاحمهم عند مشاهير القراءة وذوي الأصوات الندية، ويذكر بكائهم عند آيات الوعيد وسرورهم عند آيات الوعد، ويتذكر تلك الدموع التي هطلت، وتلك الحناجر التي بالقرآن صدحت، وتلك القلوب التي خشعت والفرائص التي ارتعدت رغبا ورهبا، سيذكر رمضان عبراتهم في ليالي التهجد على ذنوب خلت يرجون غفرانها من العلي القدير.
سيذكر شبابا ذكرانا وإناثا ظن المفسدون في الأرض أنهم قد قطعوا الصلة بالله وتنكروا لدينه فإذا هم قد تراصت أقدامهم والتصقت أكتافهم وتوجهت قلوبهم إلى الله بصدق يشكون إليه من حالوا بينهم وبين رضوانه ورحماته، ويتضجرون ممن يهزأ بهم ويسوءه حالهم من الذين تمثلهم “نيشان” وتتكلم بلسانهم وليموتوا بغيظهم.
سيذكر رمضان أفواج التائبين العائدين إلى الله الذين جعلوا من رمضان بداية عهد جديد مع ربهم، سيتذكر جموع النساء اللواتي تحجبن طاعة لله ورعاية لحرمة الشهر واستمرين على ذلك.
يذكر رمضان نسخ المصحف التي نفذت من الأسواق والجلابيب وألبسة الحشمة والوقار التي ارتفع عليها الطلب، وسيحمل في ذكرياته تصدق المحسنين وإنفاق الأغنياء وتعاون المؤمنين وتكافل الكرماء وكل من تذكر المحتاجين والفقراء وواساهم وكان بجانبهم.
سيذهب رمضان وهو في شوق إلى لقاء أحبته من جديد، يعد الأيام ويستكثر عددها ولهفته على معانقة المشتاقين إليه؛ أولئك أهل الله الذين خصهم بمزيد عنايته وكرمه فأكرموا ضيفه ووفوه حقه فحري أن يكونوا من عتقاء النار.
مرة أخرى سيغادرنا رمضان ومعه ذكريات أخرى تنغص عليه سروره بعشاقه، وتكدر عليه فرحه بأهله ومحبيه، وتسيء إلى قدسيته وتضر بخصوصيته وتجعله شهرا كباقي الشهور وأياما كباقي الأيام، إن لم يجعله البعض أسوأ الأيام وأقبح الشهور لما يبدونه فيه مما لا يبدونه في غيره من حماس لأجل الفساد والإفساد، والواقع خير مثال والحال يغني عن ألف مقال.
سيذهب رمضان وفي حلقه غصة من حال كثير من أهل الإسلام لمَّا سيذكر تهافتهم على محلات التبضع وكأن القوم قد أصابتهم مجاعة، وسيذكر جشعهم على الأكل في شهر الجوع والقناعة وموائدهم الممتلئة بالمأكولات التي يرمى أكثرها في القمامة.
سيذكر رمضان أناسا أدركهم ولم يرفعوا بذلك رأسا جاء ولم يشعروا به ولم يشعر بهم فنهارهم نوم وليلهم سهر وعبث؛ انقلبت عندهم الموازين. سيذكر انفعالهم وغضبهم وطيشهم وعربدتهم في شهر الصبر والعفو والطمأنينة والتسامح.
سيرحل رمضان وفي ذكرياته تبرج النساء وعريهم الفاحش في شهر مقدس ويذكر بغايا وزناة لم تمنعهم أفضلية الأيام من التوبة إلى الله، ويذكر أصحاب المخدرات الذين دنسوا الشهر بمتاجرتهم في الحرام وخمورا يبيعها مسلمون لغير المسلمين ولمن تشبه بهم من المسلمين، سيذكر أولئك الذين يحيون ليل رمضان في الكباريهات وعلب الفاحشة والصخب والرقص والغناء حين يبكي العباد ربهم في الثلث الأخير من الليل.
سيذكر أولئك المجاهرين بالفطر في نهار رمضان وسيذكر تلك التي أشعلت سيجارتها أمام الملأ في وقاحة من امرأة ليس لها نظير، سيذكر المعاكسين وهم صيام زعموا، سيذكر المقامرين والغشاشين واللصوص والنشالين وهم في شهر الله المبارك، سيذكر رمضان قنواتنا التي تأبى إلا أن تنغص على عباد الله فرحتهم برمضان وسعادتهم بطاعة الله وقربهم منه فتقصفهم بوابل من البرامج المائعة المميعة القاتلة للغيرة والشهامة والأخلاق.
وسيذكر أولئك الذين بكوا ليس خوفا من الله وإنما حزنا على وفاة بطل من ورق في فلم، أو من كثرة الضحك على كلام تافه يبكي الدم بدل الدمع، نطق به من يقال إنهم فنانون وإنهم يحملون رسالة؟!
كما سيتذكر الهازئين الذين إذا مروا بالمصلين يتغامزون وإذا كتبوا عنهم في جرائهم وصحفهم كانوا من المستهزئين “الله يستهزأ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون”.
سيتذكر رمضان قوما لم يدخلوا المسجد ولم يصلوا إلا بعد ما حل ضيفا على العباد، وسيذكر رحيلهم بعدما يعود رمضان أدراجه، ويذكر اللواتي يتحجبن في النهار ويتفسخن بالليل..
سيذكر هؤلاء وغيرهم وسيحمل ذكريات ما أكثرها على الحصر ولكن سيذهب وتعود الحياة إلى ما كانت عليه، ويعجز الخلق أن يجعلوا أيامهم لحظات ربانية ويحافظوا على الأجواء الرمضانية حتى يعود شهر الصيام ليجد الناس على العهد باقون وبدينهم مستمسكون، ولكن هيهات، هيهات، سيذهب رمضان ولا يدري أيعود أم لا؟
سيعود إن بقي في الكون حواريوه ومريدوه ولن يعود إذا لم يبق إلا مبغضوه وكارهوه. سيرحل ولسان حاله يقول لهم:
سيذكرني قومي إذا جد جدهم *** وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *