اعلم رحمني الله وإياك أن كل ما أصابنا ويصيبنا من فتن وبلايا مضلة إنما هو بما كسبت أيدينا، ومن تقصيرنا في حق ربنا، ومن إعراضنا عن العمل بديننا.
قال تعالى: “وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ”.
قال السعدي رحمه الله: “يخبر تعالى أنه ما أصاب العباد بمصيبة في أبدانهم وأموالهم وأولادهم وفيما يحبون ويكون عزيزا عليهم إلا بسبب ما قدمته أيديهم من السيئات” تيسير الكريم الرحمن.
وقال تعالى: “وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ”.
قال جمهور السلف: “من نفسك: بذنبك”.
وقال قتادة: “عقوبة لك يا ابن آدم بذنبك”.
ومجيء “مصيبة” و”سيئة” نكرة في سياق النفي تفيد عموم المعصية وعموم السيئة بلا استثناء، صغيرة كانت أو كبيرة خارجية كان مصدرها أو داخلية.
الشواهد على صحة هذا المفهوم
قال صلى الله عليه وسلم: “ما اختلج عرق ولا عين إلا بذنب، وما يدفع الله عنه أكثر” صحيح الجامع.
وما حصل في أحُدٍ من هزيمة عُلِّق بما كسبت أيدي المومنين وقال تعالى: “أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ”.
وما حدث في حنين من التولي أنيط بما كسبت أيديهم فقال تعالى: “وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ”.
وقال عليه الصلاة والسلام: “المصائب والأمراض والأحزان في الدنيا جزاء” صحيح الجامع.
قال المناوي رحمه الله: “لما اقترفه الإنسان في دار الهوان” فيض القدير 6/272.
وقال عليه الصلاة والسلام: “خمس بخمس: ما نقص قوم العهد إلا سلط عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، ولا ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، ولا طففوا المكيال إلا منعوا النبات، وأخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر” صحيح الجامع.
ولا يعني هذا إنكار الأسباب المادية التي خلقها الله والتي تكون طرفا فيما نصاب به، ولكن الذي ينكر الغفلة عن سببها، فلما هدم الله سد مأرب لم يرجع ذلك إلى الأسباب المادية رغم وجودها بل جعل سبب ذلك إعراضهم عن دينهم وظلمهم أنفسهم، وأناط الله الفعل بنفسه ليؤكد سبحانه: أنه هو الذي فعل بهم هذا، لا الأسباب المادية البحتة، قال سبحانه: “وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ”.
وبناء على هذا المفهوم المهم كان السلف الصالح يرجعون كل مصائبهم وهمومهم وأمراضهم الفردية والجماعية إلى ما كسبت أيدهم.
حتى إذا شاكت أحدهم شوكة، أو أصابته سعلة، أرجع ذلك إلى ذنب فعله أو إثم اقترفه، عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: “لا يصيب رجلا خدش عود، ولا عثرة قدم، ولا اختلاج عرق إلا بذنب، وما يعفو الله أكثر” صحيح الجامع.
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله عند تفسيره لقوله تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ): “أي: عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سبيله ومنهاجه وطريقته وسنته وشريعته..(يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أي: في الدنيا بتقتيل أو حد أو حبس أو نحو ذلك”.
ومن روائع لفتات ابن عباس رضي الله عنه في التفسير عند قوله تعالى: “قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ”.
قال: “أما العذاب من فوقكم فأئمة السوء، وأما العذاب من تحت أرجلكم فخدم السوء، وفي رواية: سفلتكم” رواه ابن جرير.
من شؤم المعاصي
قال ابن خيرة -وكان من أصحاب علي رضي الله عنه-: “جزاء المعصية: الوهن في العبادة والضيق في المعيشة، والتعسر في اللذة، قيل: وما التعسر في اللذة؟ قال: لا يصادف لذة حلال إلا جاءه من ينغصه إياها” انظر تفسير ابن كثير.
ومن غريب أثر المعاصي وسيران سمها الخفي وخبث كيدها القوي ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بحديثين جديرين بالتأمل:
الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: “نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضا من اللبن فسودته خطايا بني آدم” صحيح الجامع.
الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: “ما تواد اثنان في الله فيفرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهما” الصحيحة.
وقد أوجز الإمام ابن القيم مفهوم (ما أصابنا فبما كسبت أيدينا) فقال: “فكل نقص وبلاء وشر في الدنيا والآخرة فسببه الذنوب، ومخالفة أوامر الرب فليس في العالم شر قط إلا والذنوب موجبتها” المدارج 1/424.
ولقد أصبح هذا المفهوم الحق الذي يجب أن يربى عليه الأجيال نسيا منسيا عند كثير من الخاصة وأكثر العامة، بل راح البعض ينكر على من يؤكد هذا المفهوم بدعاوى باطلة وأعذار باردة لا وزن لها في الكتاب والسنة!!
وكأن هؤلاء الناس.. لا يفقهون كتاب الله عز وجل بل لا يقرؤونه، ولقد عاب الله عز وجل على من لم يدرك هذا المفهوم ووصفهم بالبلادة وسوء الفهم.
قال تعالى: “وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَـؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً، مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ”.
المفاسد العظيمة في مخالفة هذا المفهوم الشرعي
وليعلم أن في مخالفة هذا المفهوم الشرعي الحق جملة من المفاسد العظيمة والمضار البالغة منها:
أولا: مخالفة الكتاب والسنة في تحليل الوقائع كما مرَّ معنا.
ثانيا: فيه تعظيم للأعداء في نفوس المسلمين وأنهم وراء كل مصيبة تحل بالمؤمنين مما يزيد هيبة الكفار في نفوس المسلمين رهقا.
ثالثا: دب الوهن واليأس والقنوط في قلوب المسلمين، فضلا عما هم عليه من وهن ويأس وضعف في الإيمان.
رابعا: إضعاف الإيمان بالله تعالى والثقة به والتوكل عليه وأنه القادر على كل شيء، وأنه القاهر فوق كل شيء.
خامسا: فيه تزكية للنفس، بمعنى: أننا قد استكملنا شروط النصر واستحققنا التمكين، ولكننا غلبنا بقوة الأعداء وشدة بأسهم لا بسبب ذنوبنا.
سادسا: إهمال تربية أنفسنا ومراجعة حساباتنا لأننا اعتقدنا خطأ وغفلة أن المصائب ليست بسببنا.
سابعا: سوء الظن بالله العلي القدير وأنه لم يوف بوعده في نصر المومنين.
بيان وإيضاح
وكل ما ذكر من تحميل الناس تبعة ما يصيبهم لا يعني أبدا تبرئة أعداء الإسلام مما يفعلونهم بالمسلمين، فهذا أمر وذاك أمر آخر لا يدركه إلى الذين تربوا على الكتاب والسنة على وفق منهج سلف الأمة، فإن الله لما علَّق أسباب هزيمة أحُد وحُنيين بالمسلمين لا يعني هذا أنه سبحانه برأ الأعداء مما فعلوه بالمسلمين، فتدبر هذا حتى لا يموه عليك به.
قال ابن القيم رحمه الله في معرض ذكره الدروس المستفادة من غزوة أحد: “فمنها تعريف سوء عاقبة المعصية والفشل والتنازع وأن الذي أصابهم إنما هو بشؤم ذلك كما قال تعالى: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم)، فلما ذاقوا عاقبة معصيتهم للرسول -صلى الله عليه وسلم- وتنازعهم وفشلهم كانوا بعد ذلك أشد حذرا ويقظة وتحرزا من أسباب الخذلان” زاد المعاد 3/218.
ولا يعني ما قرر من قريب أو بعيد عدم الحذر من كيد الكائدين بل الحذر واجب بجميع أنواعه وصوره بدليل قول الله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ”.