الأستاذية السادية الحلقة الثالثة: الوضعية المشكلة أمحمد بن ادريس الخوجة

في طريقه إلى المدرسة، كان “مدرسنا” في غاية الانفعال، لقد ضبط رجال الأمن ابنه في حالة مشبوهة مع أحد مهربي المخدرات، كانت سيارته تسابق الريح، كلما رآها أحد مستعملي الطريق إلا فر بجسده سالما فوق الرصيف.

إن هذا المشكل الجديد سيؤثر تأثيرا قويا على تلامذته لا محالة، بالإضافة إلى ما كانوا يعانونه معه سابقا.

على جانب المدرسة لمح مجموعة من المتعلمين، يتجاذبون أطراف الحديث، قبيل رنين الجرس الذي يعلن التحاقهم بالقاعات، جال بنظره الحاد وراء نظارات سميكة، لعله يرى بينهم عناصر من تلامذته، توقف بالسيارة هنيهة، تأكد من وجود بعضهم غارقين في الحديث عن مشاكلهم مع المدرسين، من ضمن الصعوبات التي ذكروها وناقشوها، مشكل عصبية أستاذهم العصبي والمتوتر…

برر أحدهم سلوك مدرسه، والتمس له عذرا بكون التدريس مهمة صعبة للغاية، لاسيما وأن ذاك المدرس قضى مدة طويلة كمدرس وربما يكون قد أصابه الملل، لكن تلميذا آخر لم يستسغ ولم يقبل ما قاله زميله، معللا جوابه، بأن هناك مهن كثيرة هي أصعب من مهنة التدريس، مع العلم أن أصحابها لا يتقاضون إلا أجورا زهيدة، كعمال النظافة، والعاملين في البناء… بينما هما كذلك، تدخل تلميذ ثالث، بقول رصين مفاده، أن مدرسهم قد يكون مصابا بعقدة مرضية، لا شفاء منها إلا بالعلاج النفسي المتواصل، مضيفا أن أستاذهم قد يكون تعرض لممارسة العنف الجسدي أو المعنوي خلال فترة طفولته، وربما يكون مدرسه أيضا، لأنه بالطريقة التي يتعلم بها التلميذ قد يدرس بها عندما يصبح أستاذا.

كان “مدرسنا” قد تيقن بأن بعض تلاميذه ضمن تلك المجموعة، رن الجرس، التحق المتعلمون بحجرات الدرس، والتحق “مدرسنا” أيضا بقسمه، كان وجهه شاحب اللون، لأنه لم ينم إلا قسطا يسيرا من الليل، نظرا لمداهمة رجال الأمن لمنزله.

تسمر المتعلمون في أماكنهم منتظرين بترقب بالغ ما قد يصدر من مدرسهم، خبط بيده على المكتب فجأة بقوة، فارتجفت قلوب الضعاف من التلاميذ، ثم قال:

– من الآن فصاعدا، لا أحب أن أرى بعض العناصر من هذه المجموعة، مجتمعين مع غيرهم، فهم الثلاثة قصد مدرسهم، فتبادلوا نظرات خلسة دون أن يراهم، ثم أضاف:

– إن التجمعات لا تنفع في شيء، وربما قد تؤثر على تفكير الفرد الذي قد يعاني من استلاب العقل الجمعي الذي يولد الثورات والتظاهرات…

أصاب المتعلمون نوع من الذهول، وكان يخيل إليهم أن أستاذهم أصبح واحدا من عناصر دوريات الأمن التي تجوب الأحياء الفقيرة والمهمشة ليلا، بعد تلك التوصية الصارمة استدار صوب السبورة، أخذ طبشورا ثم كتب بعض الأسطر، ولما فرغ طلب من أحد المتعلمين أن يقرأها، استعد أحدهم لقراءة تلك الأسطر، قائلا:

بسم الله، لكن “مدرسنا” استشاط غضبا، ثم قال:

– دعونا من هذه الترهات… لسنا داخل مسجد أو دار عبادة، ينبغي أن ينفصل تفكيركم عن كل ما هو ميتافزيقي، نحن الآن نتعلم ولا علاقة للعلم بالغيبيات، إنه مجرد انطباع يدور في خلدكم، هل تفهمون؟

تنفس الصعداء وكأن تلميذه الذي حاول أن يستعين بالله، أخطأه بقذيفة كادت تزهق روحه، أرادت تلميذة تلطيف الجو بطلبها منه القراءة، على مضض سمح لها بذلك، لكنها بدون قصد وبعفوية تامة، قالت قبل قراءتها “بسم الله” فما أن سمعها تفوهت بذلك حتى كادت الأرض تنشق له، ليهوي في مكان سحيق، جراء ما كان يلفظه لسانه من كلمات نابية في حق من ربى أولئك على قول “بسم الله“، كاد التلاميذ من خلال زعيقه أن يدفنوا رؤوسهم في قمطر الطاولات، بعد برهة، أخذ يقرأ بنفسه ما كتب، “دانيال رجل ذكي وغني، كان جنديا في صفوف هتلر رغم كونه يهوديا، قرر يوما حينما توفي هتلر أن ينتقم من النازيين، لكونهم بلداء، فهم الذين كانوا سببا في تعذيب اليهود وحرقهم وإجلائهم” بعد انتهائه من قراءة هذا النص، علق متسائلا:

– أليست هذه وضعية ينبغي تحليلها، والتأسي بها؟ صمت الجميع فطال صمتهم، أخذ يدور بين الصفوف، وهو يقول:

– مالكم؟ تكلموا أليست هذه وضعية تستحق الدراسة؟ صاح الجميع:

– وما الغاية من دراستها أستاذ، فأردف تلميذ إنها لا تمثل واقعنا، فرد المدرس في حنق شديد:

– ماذا؟ أوصلت بكم الوقاحة إلى هذا الحد، لكن تلميذا يجلس في مؤخرة الفصل، رفع أصبعه مستشيرا المدرس لأخذ الكلمة، فلما لاح له وهو يشير بيده، سمح له بالكلام لكنه اشترط عليه ألا يتفوه بتلك الكلمات، التي يسمعها من زملائه عند بداية كلامهم، فوافق التلميذ، ثم قال:

– إنها وضعية مشكلة لا علاقة لها بواقعنا أستاذ، ينبغي أن تكون وضعية تراعي أعمارنا ومستوى تفكيرنا، كما ينبغي أن تكون وضعية لها استراتيجية، تنحو نحو خدمة المتعلم المسلم، لتحفزه على فك وحل الوضعيات المشابهة التي تعترض سبيل المتعلم أثناء وجوده في مجتمع يعج بالوضعيات المختلفة عن هذه الوضعية، احتراماتي أستاذ.

بقي مدرسنا منبهرا من جراء ما سمعه، سحب محفظته بعنف، ثم خرج قبل أن يرن الجرس بدقائق معدودة، جذب الباب بقوة حتى ارتجت أركان الحجرة، وترك المتعلمين في حيرة من أمرهم.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *