إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، وبعد أَهْدِفُ من هذا المقال إثارةَ فضولِ القارئ الشغوف بالعنايةِ إلى تدارسِ القرآن الكريم ودراستِهِ، والتأمل فيه بالقدرِ المطلوبِ شرعًا، بدايةً أَولُ ما ننطلق منه سؤالٌ عريضٌ قد لا يكفي هذا المقال للإِجابة عنه بقدرِ ما يلمسُ فيه جوانب خاصة، قد نطرحها على الشكل التالي؛ فما تجلياتُ البعدِ التربوي لمقاصد القرآن الكريم؟ وما أثرها على المتعلم والمدرس والمحتوى؟
لعلَّ الثالوثَ المذكورَ في السؤالِ الأخير هو ما يُعرَفُ في البيداغوجيةِ الحديثةِ بالمُثَلَّثِ الدّيدَاكْتِيكي لأيّ مادةٍ تعليمية، مما يجعلنا نفترضُ كإجابةٍ مؤقتةٍ عن تلك الأسئلة بالقول: بأن المُدْرِكَ لمقاصدِ القرآن الكريم على حقيقتها رهين بأن يمتثل لذلك قولا وفعلا، وأن هذه المقاصد القرآنية هي الضابطة للفكر الإنساني خدمة للنص الشرعي.
أيّهَا القارئ، مَقَاصِدُ القرآن وردَتْ في كتب المفسرين بطرقَ عِدةٍ، واختلفت بحسب تصورِ كُلّ مفسرٍ على حدة، ولعلّ أهمَّ الكُتُبِ التي تحدثت عن مقاصد القرآن بشكل مُجْمَلٍ؛ كتابين لعالمين جليلين، الأول كتاب: “المَحَاوِرُ الخَمْسَةُ لِلْقُرْآنِ الكَرِيم” للشيخ محمد الغزالي رحمه الله تعالى، والثاني للعلامة المفسر التونسي محمد الطاهر بن عاشور صاحب “التَّحِرِير وَالتَّنْوِير”. فمن خلال ما ذكره هذان العالمان سنستخرج بعض الأبعادِ التربويةِ التي ينبغي أن يَتَحَلَّى بها المدرس والمتعلم، وللقارئ الكريم أن يستخرج العديد منها على حسب التَّعَمّق، والمقام هنا ليس مقام البسط والاستفاضة.
أولا: مقاصد القرآن من خلال كتاب: “المحاور الخمسة للقرآن الكريم” لمحمد الغزالي، وقد جعلها على شكل محاور:
الأول: اللهُ الواحدُ: وهو من المحاور التي دارت عليها سور القرآن عامة.
الثاني: الكونُ الدَّالُ عَلَى خَالِقِهِ: وفيها الآيات الكونية التي تتحدث عن الخلق جملة، قال تعالى: “سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق” .
الثالث: القَصَصُ القُرْآنِيُّ: هذا المحور هو أَوْسَعُ المحاور القرآنية، إذ القرآن الكريم احْتَوى عددا من القصص منها قصص الأنبياء مع أقوامهم، ومنها قَصص الأمم السابقة، ومن هذه القصص من تفردت في مواضعَ خاصة من سورة البقرة وغيرها كقصص بني إسرائيل، وقصة أصحاب البقرة…
الرابع: البَعْثُ وَالجَزَاءُ: وهذا المَقْصِدُ خطير، وقد تقرر من خلال القضايا التي أشْبَعَهَا القُرآن استدلاَلاً خاصةً لمن أنكر البعث والجزاء…
الخامس: مَيْدَانُ التَّرْبِيةِ وَالتَّشْرِيعِ: والتربية توجد في الجانب المدني أكثر منه في المكي…
إن من يتأمل هذه المقاصد التي ذكرها المرحوم “محمد الغزالي” يستخلص منها الغايات والأسرار التي جعلها الشارع في القرآن الكريم والتي هي في مصلحة العبد آجلا أو عاجلا، وهي رحمة كلها وعدل كلها، وإنما تركيزنا على المحور الخامس، الذي يَعْتَبِر أن القرآن من مقاصده التربية والتشريع، ومرد ذلك كله إلى قوله تعالى: “إقرأ باسم ربك الذي خلق”
ثانيا: مقاصد القرآن من خلال كتاب التحرير والتنوير لمحمد الطاهر بن عاشور
قال محمد الطاهر بن عاشور: “أَلَيْسَ قَدْ وَجَبَ عَلَى الْآخِذِ فِي هَذَا الْفَنِّ أَنْ يَعْلَمَ الْمَقَاصِدَ الْأَصْلِيَّةَ الَّتِي جَاءَ الْقُرْآنُ لِتِبْيَانِهَا فَلْنُلِمَّ بِهَا الْآنَ بِحَسَبِ مَا بَلَغَ إِلَيْهِ اسْتِقْرَاؤُنَا وَهِيَ ثَمَانِيَةُ أُمُورٍ:
– أولها: إِصْلَاحُ الِاعْتِقَادِ وَتَعْلِيمُ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ، وهذا أعظم سبب لإصلاح الخلق، لأنه يزيل عن النفس عادة الإذعان لغير ما قام عليه الدليل، ويُطهر القلب من الأوهام الناشئة عن الإشراك والدهرية وما بينهما، وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى “فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تتبيب”
– ثانيها: تَهْذِيبُ الْأَخْلَاقِ قَالَ تَعَالَى: “وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ”
– ثالثها: التَّشْرِيعُ وَهُوَ الْأَحْكَامُ خَاصَّةً وَعَامَّةً. قَالَ تَعَالَى: “إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّه…”
– رابعها: سِيَاسَةُ الْأُمَّةِ وَهُوَ بَابٌ عَظِيمٌ فِي الْقُرْآنِ، الْقَصْدُ مِنْهُ صَلَاحُ الْأُمَّةِ وَحِفْظُ نِظَامِهَا كَالْإِرْشَادِ إِلَى تَكْوِينِ الْجَامِعَةِ بِقَوْلِهِ: “وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها”
– خامسها: الْقِصَصُ وَأَخْبَارُ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ لِلتَّأَسِّي بِصَالِحِ أَحْوَالِهِمْ قَالَ تعالى: “نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ”
– سادسها: التَّعْلِيمُ بِمَا يُنَاسِبُ حَالَةَ عَصْرِ الْمُخَاطَبِينَ، وَمَا يُؤَهِّلُهُمْ إِلَى تَلَقِّي الشَّرِيعَةِ وَنَشْرِهَا وَذَلِكَ عِلْمُ الشَّرَائِعِ وَعِلْمُ الْأَخْبَارِ وَكَانَ ذَلِكَ مَبْلَغَ عِلْمِ مُخَالِطِي الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
– سابعها: الْمَوَاعِظُ وَالْإِنْذَارُ وَالتَّحْذِيرُ وَالتَّبْشِيرُ، وَهَذَا يَجْمَعُ جَمِيعَ آيَاتِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَكَذَلِكَ الْمُحَاجَّةُ وَالْمُجَادَلَةُ لِلْمُعَانِدِينَ، وَهَذَا بَابُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ.
– ثامنها: الْإِعْجَازُ بِالْقُرْآنِ لِيَكُونَ آيَةً دَالَّةً عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ إِذِ التَّصْدِيقُ يَتَوَقَّفُ عَلَى دَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ بَعْدَ التَّحَدِّي، وَالْقُرْآنُ جَمَعَ كَوْنَهُ مُعْجِزَةً بِلَفْظِهِ وَمُتَحَدًّى لِأَجْلِهِ بِمَعْنَاهُ وَالتَّحَدِّي وَقَعَ فِيهِ: “قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ”
أهم الأبعاد التربوية التي يمكن أن نَسْتَشِفهَا من هذه المقاصد القرآنية هيَ:
1- البُعْدُ العَقَدِيُّ: بحيث إن القرآن أُنْزِلَ لِتصحيح العقيدة وتَخْلِيصِ الناس من الشركيات والخرافات التي تهدم العقل ولا تُشَكِّلَهُ، والعقل مسرح كبير ينبغي للمدرس أن يشتغل عليه، وخصوصا في هذا الزمن الذي أَضْحى تُدَسُّ فيه أمور غريبة تستهدف عقول أبنائنا من دون أن يشعروا بها، وأن يجعل كل عمل يقوم به المرء عبادة وتقربًا إلى الله تعالى، هذا الضابطُ مما تفردت به هذه الأمة عن غيرها من الأمم، لأن السبب الذي خُلِقَ من أجله الإنسان هو العِبَادَةُ “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون” .
2- البُعْدُ الأَخْلاَقِيُّ السُّلُوكِيُّ: القرآن الكريم في مُجِمَلِهِ يحمل قيما أخلاقية تربوية تُسَدِّدُ العَقْلَ البشريَّ، وتجعله دائما يقظا واعيا في تشكيل لُحْمَةٍ متواصلة ذات أبعاد سلوكية، بغرض توطيد العلائقِ البشرية في هذا الكون: قال تعالى: “إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أثقاكم” والأَخْلاَقُ والكرَامَةُ مما ينبغي الحرص على تعلمها واقتفاء سُبُلِهَا، وقد كان خُلُقُ الرَّسُولِ صلى اللهُ عليه وسلم “القُرْآنَ”، لِمَا فيه من القِيَمِ الرَّبَّانية التي تُزَكِّي النَّفس وتُطَهِّرُ القَلْبَ من الأدناس والأوحال المتسخة، فنتج عن ذلك الربط بين العلم والعمل، والمزج بين الفعل والقول، وألا يخالف أحدهما الآخر، قال الشَّاطبيُّ رحمه الله في قاعدتِهِ المشهورة: “كُلُّ مَسْأَلَةٍ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهَا عَمَلٌ؛ فَالْخَوْضُ فِيهَا خَوْضٌ فِيمَا لَمْ يَدُلَّ عَلَى اسْتِحْسَانِهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ، وَأَعْنِي بِالْعَمَلِ: عَمَلَ الْقَلْبِ وَعَمَلَ الْجَوَارِحِ، مِنْ حَيْثُ هُوَ مَطْلُوبٌ شَرْعًا” .
3- البُعْدُ العِلْمِيُّ التَّعْلِيمِيُّ: بحيث إن القرآن الكريم يراعي في مقاصده مخاطبة الناس بحسب عصرهم، “مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْء “فهو المعجزة المتجددة التي لا تبلى ولا تتناثر، إذ هو “كتاب الله تبارك وتعالى؛ فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، ونوره المبين، والذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا تتشعب معه الآراء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يمله الأتقياء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم تنتهِ الجن إذ سمعته أن قالوا: إنا سمعنا قرآنا عجبا، من علم علمه سبق، ومن قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أُجِر، ومن دعا إليه هُدِيَ إلى صراط مستقيم” والقرآن كله إنما جاء ليعلم الإنسان أمور دينهم وتعاملاتهم، والسنة النبوية قد وضحت الأمر تفسيرا وبيانا، ولذلك فالسنة مرآة القرآن من حيث التفريع والبيان والشرح.
4- البُعْدَ الِبيدَاغُوجِيًّ الدِّيدَاكْتِيكِيُّ: ويمكن استخلاص ذلك من خلال أن القرآن الكريم مَنْظُومَةٌ عِلْمِيَّةُ أوحاها الله تعالى من فوق سبع سماوات عبر جبريل عليه السلام إلى قلب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ليبلغه للناس على قدر عقولهم، والحق أنه أدى الأمانة وبلغ الرسالة، فترك الناس على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، وجعل من منهجه طريقا للعارفين قصد تبليغ هذا الدين إلى الناس عامة بمختلف مستوياتهم، وهذه المستويات هي درجات كل فرد في الفهم والإدراك، وفي الأثر المشهور عن علي رضي الله تعالى عنه قال: “حدّثُوا النَاسَ على قَدْرِ عُقُولِهم [بما يفهمون] أتريدون أن يُكَذَّبَ الله ورسوله” فصيغة الخطاب ينبغي أن تستحضر عند تبليغ القرآن من كُلِّفوا بمعرفته ضبطا وفهما وتنزيلا بحسب مراق عقليتهم النفسية والاجتماعية.
5- البُعْدُ العَمَلِيُّ: الغرض كله من نزول القرآن هو العمل، أي تطبيق الأثر القرآني في الحياة اليومية من جهة القول بالترتيل والتلاوة والتدبر والتعقل، ومن جهة الفعل بالامتثال والتطبيق، وذلك مجال الفقه، والمنهاج القرآني إنما غرضه الهداية والرحمة وجلب المصالح ودفع المفاسد، و”إِنَّ الشَّرِيعَةَ مَبْنَاهَا وَأَسَاسُهَا عَلَى الْحِكَمِ وَمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَهِيَ عَدْلٌ كُلُّهَا، وَرَحْمَةٌ كُلُّهَا، وَمَصَالِحُ كُلُّهَا، وَحِكْمَةٌ كُلُّهَا؛ فَكُلُّ مَسْأَلَةٍ خَرَجَتْ عَنْ الْعَدْلِ إلَى الْجَوْرِ، وَعَنْ الرَّحْمَةِ إلَى ضِدِّهَا، وَعَنْ الْمَصْلَحَةِ إلَى الْمَفْسَدَةِ، وَعَنْ الْحِكْمَةِ إلَى الْبَعْثِ؛ فَلَيْسَتْ مِنْ الشَّرِيعَةِ وَإِنْ أُدْخِلَتْ فِيهَا بِالتَّأْوِيلِ؛ فَالشَّرِيعَةُ عَدْلُ اللَّهِ بَيْنَ عِبَادِهِ، وَرَحْمَتُهُ بَيْنَ خَلْقِهِ، وَظِلُّهُ فِي أَرْضِهِ، وَحِكْمَتُهُ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ وَعَلَى صِدْقِ رَسُولِهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَتَمَّ دَلَالَةً وَأَصْدَقُهَا ” ، فالمدخل الكبير الذي ينبغي أن يشرع منه المفسر وكذلك المدرس الآن بعد معرفته لمقاصد القرآن هو: معرفة وحدة السور القرآنية، والمناسبة بين السور داخل الموضوعات الكبرى، مع معرفة تناسب الموضوعات داخل جزئيات القرآن ثم إدراك تناسب الآيات داخل المقطع الواحد: وهنا يدخل في التفسير المَوْضُوعي، والتفسير المَوْضِعِي.
نهاية لهذا المقال أقول إن استيعاب مقاصد القرآن الكريم والامتثال لها إنما يمكن إدراكها من خلال كثرة القراءة للقرآن الكريم والوقوف عند بعض الآيات المتضمنة للمقاصد القرآنية، وقد ذكر أحد السلف كلاما بليغا يؤكد ما ذهبنا إليه بقوله: “ينبغي أن نتناول القرآن بروح الافتقار لا بنية الاستظهار” لأن ذلك مدعاة إلى أن نجعل من قراءتنا تربية لأنفسنا والتأثير على محيطنا، وبالتالي القضاء على جميع المشاكل التي قد تهدد أمننا العقدي النفسي والاجتماعي.
والحمد لله أولا وآخر.