المسألة الإرثية المثارة بالمغرب: سياقها وأصولها الفكرية والفلسفية ومناقشتها 3/3   حسن فاضلي أبو الفضل

 

ثالثا: مناقشة فقهية تأصيلية منطقية اجتماعية للقضية

من خلال تتبع أقوال بعض دعاة المساواة في الإرث لم أجد عندهم تعريفا ولا مفهوما ولا شرحا محددا للمساواة، فهل يقصدون به المساواة مطلقا بين الذكور الورثة والإناث الوارثات؛ فيصبح نصيب الابن كنصيب البنت كنصيب الأخت كنصيب الزوجة كنصيب بنت الابن؟

أم أنهم يقصدون به المساواة بين الذكر المباشر والأنثى المباشرة؛ بحيث يرث الابن بالفرض منفردا النصف أو الثلثين في حال التعدد؟ أم العكس بحيث ترث البنت بالتعصيب فقط؛ بحيث إذا انفردت ترث كل التركة وإذا تعددت مع ذكر أو أكثر يقتسمان بالتساوي؟ أم أن جميع الذكور وجميع الإناث يرثون بالتعصيب فقط؟

أكاد أجزم أن لا أحد من هؤلاء قرأ نظام الإرث بما هو نظام، قد يكون أحدهم قرأ يوما آية في سورة النساء ولكن من المستحيل أن يفهم نظام الإرث ثم تصدر عنه مثل هاته (المهزلة)!

فلو أن أحدا حدد المقصود بالمساواة وأنه المساواة بين الابن المباشر والبنت المباشرة؛ بحيث يرثان بالتعصيب معا! فإذا انفردت البنت تأخذ كل التركة، وإذا تعددت مع أنثى أخرى أو ذكر يقتسمان التركة. ولكن ماذا لو اجتمعت البنت مع بنت الابن في مسألة واحدة؟ فهل سترث معها بالتساوي، أم أنها ستحجبها! في هذه الحالة يتم إسقاط نظام الإرث بأكمله، والذي لا يعلمه هؤلاء أن نظام الإرث من أدق ما يكون بحيث إذا تم تغيير نصيب وارث واحد أو تغيير طريقة إرث وارث واحد فإن نظام الإرث يتهاوى عن آخره، فنكون إذن ليس أمام المساواة بين الذكر والأنثى ولكن أمام حذف ثلاث آيات من القرآن وما يفوق عشرين حديثا صحيحا.

فإن قيل: نحن لا نقصد حذف آيات من القرآن ولا تحريف التنزيل، وإنما لأن الظروف تغيرت والمجتمعات تطورت وأصبحت المرأة موظفة ومشتغلة؛ فهي تشارك الرجل في النفقة، ولقد أوقف عمر رضي الله عنه حد القطع لما رأى انتشار السرقة بسبب المجاعة!

قيل: أولا:عمر رضي الله عنه لم يوقف الحد ولم يغير حكم الله تعالى -وإن كان بعض الباحثين قد قالوا بالنظر المقاصدي في إيقاف الحد لا إسقاطه، والأمر ليس كذلك- وإنما نظر في موانع تطبيق الحد؛ ذلك أن الحدود لا تطبق على المكلف إلا إذا توفرت شروطها كاملة وانتفت موانعها كاملة. ثم إن الحدود غير أنصبة الإرث؛ الأولى عقوبة دنيوية تُراعى فيها الشروط والموانع ولا دخل لنوع الحد في ذلك، والثانية استحقاق تُراعى فيها شروط الاستحقاق وموانعه ولا دخل للأنصبة في ذلك.

ثانيا: الأحكام المتعلقة بتغير الظروف وتطور المجتمعات هي تلك الأحكام المسكوت عنها في الشرع -ويسميها بعض العلماء دائرة الفراغ في الشرع-، وهي المتعلقة بالمستجدات والنوازل المعاصرة، وقد أرجع الشرع استنباط أحكامها للمجتهدين من العلماء وليس لعموم أهل القبلة.

ثالثا: أما وإن المرأة أصبحت مشتغلة ومنفقة على بيت الزوجية، فهذا قد حصل من قديم الزمان والمرأة البدوية تشتغل فتحطب الحطب وترعى الماشية وتسقي الحقول، فأين كان هؤلاء؟ أم أنهم يقصدون بالمرأة المرأة المدنية لا البدوية، فحينها يحتاج الأمر أولا إلى المساواة بينهما.

رابعا: المساواة التامة بين الذكر والأنثى خارج أحكام الشرع تقتضي إسقاط المهر عن الرجل وإسقاط النفقة الواجبة على بيت الزوجية من مأكل ومشرب ومسكن وفراش، فهل يقول به هؤلاء؟!

ثم إن من النساء من تنفق على زوجها -لعلة مرضية أو لغير علة- وعلى أبنائها، ومنهم من بلغ العشرين والثلاثين أو يزيد ولازال يعيش على نفقة والدته، فهل إذا مات هذا الزوج وترك تركة، تأخذا الزوجة نصيبا أكبر من أبنائها بسبب الإنفاق على بيت الزوجية؟ أم تتساوى معهم؟

ثم إن الأنثى في حالات كثيرة ترث أنصبة تفوق أنصبة الذكر، ومثاله: توفي رجل وترك ثمانية (8) أبناء أو أكثر وزوجة -سواء كانت أما للأبناء أو زوجة أبيهم- وتركة قدرها (8 مليون سنتيم)؛ فسيكون نصيب الزوجة هو الثمن ويقابله (1 مليون سنتيم)، فيما نصيب كل ابن هو (0.87 مليون سنتيم؛ أي أقل من ميراث الزوجة). فهل تطالب الزوجة بالمساواة في هذه الحالات. وهناك حالات أخرى يتساوى فيها نصيب الأنثى بنصيب الذكر؛ وخلاصة هذا المثال أن الذكر لا يرث دائما ضعف ما ترثه الأنثى، فتارة يرث أكثر منها، وتارة يتساوى معها، وتارة ترث هي أكثر منه، وهذا الذي لا يدركه هؤلاء!

إن الشرع الحكيم لما أعطى للذكر في بعض الحالات أنصبة تفوق أنصبة الأنثى أو حقوقا قد تفوق حقوق الأنثى، فلأنه أمره بواجبات تفوق واجبات الأنثى، ففي حالة الزوجة المنفقة -مدار الكلام- فإننا لم نجد آية في الكتاب ولا حديثا في السنة ولا قولا لعالم ينص على وجوب النفقة على الزوجة، بل حتى في حالة عجز الزوج على الإنفاق نجد أن الشريعة خيرت الزوجة بين البقاء من غير نفقة وبين طلب الطلاق، ولم تلزمها بالنفقة ولو كانت موسرة وغنية، فإن أنفقت الزوجة على زوجها وأولادها برضاها فإن ذلك يعتبر تبرعا وهبة، فإن أخذ منها زوجها شيئا من غير رضاها يعد غصبا ولو كان معسرا فقيرا. فكيف يتم إذن إسقاط أنصبة محددة في الكتاب و إلزام الزوجة بالنفقة؟!

قال تعالى: (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) (البقرة:233).

وقال سبحانه: (أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم، ولا تضارهم لتضيقوا عليهن، وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن) (الطلاق:6).

ومن السنة ما أخرجه مسلم من حديث جابر – رضي الله عنه – في صفة حجة النبي -صلى الله عليه وسلم- وفيه قوله -صلى الله عليه وسلم-: (اتقوا الله في النساء؛ فإنهنَّ عَوان عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحلَلتم فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف).

وفي سنن أبي داود من حديث معاوية بن حَيْدة -رضي الله عنه- قال: قلتُ: يا رسول الله، ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: (أن تُطعمها إذا طعِمتَ، وتكسوها إذا اكتسيتَ، ولا تضرب الوجه، ولا تقبِّح، ولا تَهجر إلا في البيت).

وفي مدونة الأسرة: (تجب نفقة الزوجة على زوجها بمجرد البناء، وكذا إذا دعته للبناء بعد أن يكون قد عقد عليها) (المادة:194).

وفي المدونة أيضا: (تشتمل النفقة الغذاء والكسوة والعلاج، وما يعتبر من الضروريات والتعليم للأولاد…) (المادة:189).

وأيضا: (تستمر نفقة الأب على أولاده إلى حين بلوغهم سن الرشد، أو إتمام الخامسة والعشرين بالنسبة لمن يتابع الدراسة.

وفي كل الأحوال لا تسقط نفقة البنت إلا بتوفرها على الكسب أو بوجوب نفقتها على زوجها) (المادة:198).

يلاحظ في الفقرة الثانية من هذه المادة أن البنت قد بلغت حقوقها السقف، فلا تخل جميع مراحل حياتها من وجوب النفقة عليها على غيرها؛ قبل الزواج على أبيها وبعده على زوجها، فيما يتوقف هذا الحق عند الابن بمجرد بلوغه سن الرشد.

إن أنصبة الورثة قد حسمها القرآن والسنة بما لا يدع مجالا لتحريفها وتأويلها، والدعوة إلى تغير هاته الأنصبة يحتاج إلى نص من الكتاب ينسخها، ومعلوم أن باب النسخ قد سُدّ بوفاة النبي عليه الصلاة والسلام، وكل ما قيل في الموضوع هو من باب تحريف شرع الله!

قال أحدهم: نحن لا نريد تغيير أحكام الشرع المتعلقة بالإرث وإنما نريد فتح نقاش مجتمعي! وكأن الأمر يتعلق بغلاء الأسعار أو ضعف التحصيل الدراسي عند الشباب أو اختلالات تدبير الشأن المحلي، في مثل هذه الحالات المدنية وأشباهها يمكن أن ندعو إلى نقاش مجتمعي لمدارسة الموضوع وتقديم حلول للأزمة. أما وأن الأمر يتعلق بشرع الله ونصوصه ثابتة في الكتاب والسنة، فإن المؤهل لذلك ليس عموم أهل الملة وإنما أهل الاجتهاد من العلماء.

فتفسير الدين “فضلا عن الاجتهاد فيه، يحتاج إلى علم ومعرفة وخبرة، وإنما يحق للشخص أن يمارس ذلك، وأن يتمادى فيه قليلا أو كثيرا بقدر ما له من العلم والمعرفة والخبرة” (الاجتهاد: النص، الواقع، المصلحة، ص12، أحمد الريسوني)، كما يشترط العلم والمعرفة والخبرة في الطب والهندسة وغيرهما، وقد سبق معنا أن الاجتهاد لاستنباط حكم شرعي لا يقل أهمية وخطورة عن إجراء عملية جراحية وعن تصميم عمارة.

جميع التشريعات التي تصدر عن الإنسان يعتريها القصور والخلل ولذلك نراه مضطرا -من حين لآخر- لتغييرها وتجديدها أو تعديلها؛ لأن منسوبة إليه، والإنسان هو الإنسان من صفاته الضعف والعجز ومدافعة نوازع الهوى إياه، فهل نتخلى عن شريعة ربانية متصفة بالكمال والمصلحية والخلود لشريعة آدمية تحمل من صفاته ما يتصف به، وأقل ما يقال فيها أنها صادرة عن عقل لا يحيط بكل الناس ظاهرهم وباطنهم، ولا يدرك مصالهم الفردية والجماعية والحاضرة والمستقبلية في آن واحد!

  خاتمة لابد منها

أيها المغاربة المسلمون هذا دينكم الذي ارتضاه الله لكم، وهو دين أجدادكم من القرن الهجري الأول، آمنوا به و اتبعوا رسوله عليه الصلاة والسلام عن طواعية واقتناع، ودافعوا عنه بأموالهم وأولادهم وأنفسهم، وانتصروا له وبلغوه للأمم الأخرى وخاضوا في سبيله البر والبحر. وهو منصور بنا أو بغيرنا، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن المستقبل له، ففي الحديث الصحيح عن تميم الداري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل عزاً يعز الله به الإسلام وذلاً يذل الله به الكفر له” (أحمد والطبراني والبيهقي وغيره).

ففوزوا بشرف الثبات عليه ولا تهدموا ما بناه أجدادكم، فقد ناضلوا وناظروا غيرهم لإثبات ربانيته وعالميته ورحمته وشموليته وعصمته من التحريف. فما أراهم قد أخذوا به إلا وقد درسوه ونقحوه وأزالوا الباطل منه وبينوا حكمه وأسراره، فخذوا وصيتهم بحقها وكونوا خير خلف لخير سلف…

والله أعلم.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *