لم يكن لجماعة “الخدمة” الصوفية التي يتزعمها الداعية التركي المقيم بالولايات المتحدة الأمريكية، فتح الله غولن (74 سنة)، أي صدى في أوساط المجتمع المغربي قبل الصراع الذي تفجر مؤخرا بينها وبين الحكومة التي يقودها حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، فقد كانت الجماعة تشتغل في الظل وتتبع استراتيجية الاختراق والتغلغل الهادئ إلى أن أخرجتها الأزمة في بلاد الأناضول، بسبب الجدل الذي أثارته على خلفية وقوف رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، أمام زحفها نحو السيطرة والتحكم في القطاعات الحيوية بالبلاد لخدمة أجندتها الخاصة.
وفور مهاجمة أردوغان لها واتهامها بـتشكيل الدولة داخل الدولة وزعزعة استقرار البلاد وخدمة أجندة خارجية، سارعت جماعة الخدمة بالمغرب لاحتواء الأصداء التي تنقلها مختلف وسائل الإعلام المغربية للرأي العام المحلي، فعمدت إلى عقد لقاءات مكثفة مع ممثلي المنابر الإعلامية والصحفية من أجل محو الصورة السلبية عنها وتفنيد الاتهامات الموجهة لها من أنقرة ومن أجل مُحاصرة نزيف المُعرضين عنها وتلميع صورتها، نظمت زيارات جماعية لعدد من الصحافيين والإعلاميين والأكاديميين والأساتذة الجامعيين إلى تركيا.
فخلال الشهر الماضي، نظم أتباع فتح الله غولن، لقاءين تواصليين بالمركز الثقافي بالرباط استدعوا لهما مجموعة من الصحفيين بالرباط، وحسب مصادر حضرت اللقاء فإن مسؤولي الجماعة بالمغرب أطلعوا الإعلاميين المغاربة على مستجدات المشهد التركي من أجل إقناعهم بوجهة نظرهم وموقفهم من الخلاف الذي تفجر على حين غرة بينهم وبين حكومة حزب العدالة والتنمية.
فكيف تشتغل الجماعة بالمغرب وما حجم نفوذها؟
وإلى أي حد تأثرت الجماعة بالمغرب بالصراع الدائر في تركيا؟
وهل سيؤثر ذلك على وجودها في المغرب؟
تغلغل ناعم في المجتمع المغربي
ابتدأ وجود جماعة “الخدمة” بالمغرب سنة 1994 حين شيد أول فوج من أتباع غولن مدرسة ابتدائية بمدينة طنجة بدعم وتمويل من رجل أعمال مغربي، غير أن توسع نشاطها وامتداد نفوذها ليشمل الجانب الثقافي والاقتصادي يعود لوقت قريب جدا، وبالضبط إلى سنة 2011 عقب تأسيس المركز الثقافي المغربي التركي بالعاصمة الرباط، حيث استفادت الجماعة من علاقتها الجيدة آنذاك مع حزب العدالة والتنمية التركي الذي تجمعه علاقة قوية بنظيره المغربي حزب العدالة والتنمية، وبعد وصول الأخير للسلطة بالمغرب نهاية السنة نفسها، استغلت حركة غولن هذه الأجواء وتغلغلت بشكل هادئ.
ويشكل المركز اللغوي والثقافي التركي بالرباط أحد أبرز مراكز استقطاب الجماعة بالمغرب، حيث الكثيرون لا يعرفون أن المركز شركة خاصة يملكها أتباع فتح الله غولن وليس مركزا تابعا للسفارة التركية كما يعتقد القاصدين له باطمئنان ظنا منهم أنه جهة رسمية، غير أن الأمر يتعلق بإحدى الوسائل التي تركز عليها الجماعة في تغلغلها داخل مختلف الدول التي تتواجد بها، ويتعلق الأمر بالمجال الثقافي المبني على فلسفة معدة بدقة هائلة لاستقطاب أكبر قدر ممكن لمختلف شرائح المجتمع المغربي.
وحسب مصادر مقربة من أفراد الجماعة بالمغرب فإن المركز الثقافي يقدم الدروس الخصوصية للتلاميذ والطلبة لتعليم اللغة التركية وحصص لغات أجنبية أخرى من طرف أساتذة أتراك قادمين للمغرب من أجل هذه الوظيفة، كما ينظم المركز أنشطة أخرى تدر الدخل المادي كالرحلات سياحية للمغاربة الراغبين في زيارة تركيا، بينما ينظمون أنشطة خيرية محدودة تتمثل في استقطاب تلاميذ أبناء الأسر المعوزة من الناجحين في مستوى “الباكالوريا” لاستكمال دراستهم العليا بجامعاتهم المنتشرة في ربوع بلاد الأناضول، فيما يترصدون أبناء الأغنياء الذين لم يستوفوا شروط القبول في كليات الطب والهندسة بالمغرب للدراسة في المعاهد الخاصة بتركيا التابعة لرجال الجماعة.
المدارس وبيوت الطلبة.. استراتيجية هادئة لاختراق المجتمع
تشكل المدارس والمعاهد العمود الفقري لجماعة فتح الله غولن، حيث يعد الحقل التعليمي والتربوي مجالا خصبا لنشر نمط الأفكار أو التدين عن طريق والمناهج الدراسية والكفايات التعليمية التي يلقنها المعلمون والأساتذة للتلاميذ، وفي مدارس جماعة الخدمة يتم بناء شخصية التلميذ وفقا لأجندة الجماعة وزعيمها، ويؤكد مقربون من الجماعة بالمغرب أن منظومتهم التربوية تزرع في التلاميذ بطريقة غير مباشرة قيم ومبادئ المشروع الصوفي لزعيم الجماعة.
ويعد المغرب واحدا من البلدان الـ170 الذين تتوفر فيهم حركة “الخدمة” على المؤسسات التعليمية حيث يوجد لديهم أزيد من خمسة مدارس خاصة مسماة بـ”محمد الفاتح”، تتوزع على مدن طنجة وتطوان والجديدة والرباط والدار البيضاء ومراكش وأكادير، وحسب مسؤولي الجماعة بالمغرب فإن هذه المدارس مؤسساتٌ تعليمية تمارس إلى جانب دورها التعليمي دورا في مكافحة التشوّه والتحلّل القيمي والأخلاقي والاستلاب الثقافي لأبناء المجتمعات الإسلامية والمغرب واحد منها؛ فضلاً عن ذلك، فإنها تملأ الفراغ المحتمل الذي يمكن أن يحدث نتيجة عدم وجود هذه المدارس، ثم أن إنشائها يتم بتنسيق مع وزارة التربية والتعليم المغربية.
ومما يُلفت الانتباه أن أتباع غولن بالمغرب استطاعوا اقتحام عالم رجال المال والأعمال المغاربة بشكل لم تتمكن منه التنظيمات الإسلامية في المغرب، وحسب مصادر مقربة من جماعة غولن بالمغرب فإن عددا من المدارس وبيوت الطلبة المتواجدة بطنجة وتطوان والرباط والبيضاء ومراكش وفاس تم تشييدها بدعم أموال المغاربة، مما يوضح استراتيجية الجماعة في التغلغل الاختراق وقدرتها في الاستقطاب.
الاستقطاب الثقافي
إلى جانب المجال التعليمي يتركز نشاط جماعة “الخدمة” بالمغرب على المجال الثقافي الذي يُمثل هو الآخر أحد الجبهات القوية التي يشتغل عليها أتباع غولن في مختلف دول العالم المتواجدين بها، وذلك من أجل إعطاء دفعة قوية لمشروعها العابر للقارات والتعريف به واستقطاب أفراد جدد إليه، وفي المغرب عرف النشاط الثقافي للجماعة تطورا كبيرا منذ إنشاء المركز الثقافي بالرباط سنة 2011، فبعد أن كان يقتصر على توزيع عدد محدود من مجلة حراء أصبحت الجماعة بفضل المركز تنظم ندوات ملتقيات علمية تستدعي إليها نخبة من الأساتذة الجامعيين والمفكرين والأكاديميين البارزين في مجال العلوم الشرعية والدراسات الإسلامية وعقد شراكات علمية مع مراكز أبحاث محلية وتنظيم أنشطة ثقافية مختلفة بمدارسهم الخاصة وفي بعض الجامعات المغربية.
وإلى جانب مجلة “حراء” التي عرفت مبيعاتها تزايدا ملحوظا في السنوات الثلاثة الأخيرة واتسعت دائرة الاشتراكات فيها لتصل إلى أزيد من 3000 مشترك، بفضل استمالتها لمجموعة من العلماء المغاربة البارزين للكتابة فيها بانتظام، أبرزهم الشاهد البوشيخي، وأحمد العبادي، ومحمد الروكي وكلهم أعضاء الرابطة المحمدية لعلماء المغرب، فإن مُؤلفات وكُتب زعيم الجماعة فتح الله غولن باتت تتصدر واجهات المكتبات المغربية ومعارض الكُتب، ففي شهر مارس الأخير تم انتقاء كتبه واعتبارها من كتب الشهر.
جماعة غولن والسلطة السياسة بالمغرب
يؤكد متتبعون للشأن التركي أن علاقة جماعة “الخدمة” بالدول العربية ضعيفة جداً، وأنها لا زالت في طور بناء علاقات الرسمية الخارجية لأنها جماعة مجتمعية وليست جماعة سلطة، غير أن واقع الحال بالمغرب مختلف عن ذلك تماما، فحسب إدريس بوانو القيادي في حزب العدالة والتنمية المغربي والباحث في الشأن التركي، في تصريحه لجريدة أخبار اليوم المغربية مطلع شهر يناير من السنة الجارية، فإن جماعة غولن باتت لها علاقة قوية بالسلطة السياسية بالمغرب بعد أن بنت نفوذها في البداية على أكتاف الحزب الإسلامي الذي يقود الحكومة حاليا”.
وإذا كانت الجماعة في السابق تحظى بتسهيلات كثيرة بقُربها من حزب العدالة والتنمية المغربي لتنظيم أنشطتها وملتقياتها بالجامعات المغربية والتي تتمحور عادة حول مشروع زعيمها الروحي المُصلح بديع الزمان النورسي أو حول مشروع البناء الحضاري لزعيمها التنظيمي فتح الله غولن، فإن نفوذها اليوم حسب إدريس بوانو لصحيفة أخبار اليوم وصل إلى الديوان الملكي، حيث استضاف الملك محمد السادس عقب أحد الدروس الحسنية في شهر رمضان من السنة الماضية، المشرف العام على مجلة «حراء» نوزاد صوّاش، أحد رموز جماعة فتح الله غولن في تركيا وخارجها.
لكن إذا كانت الجماعة بهذه القوة فلماذا لا تخشاها السلطة بالمغرب وتتساهل مع نشاطها وتحركتها؟ سؤال يفسره كثير من المراقبين بكون أتباع غولن جماعة صوفية تشتغل في المجال التربوي والروحي والعلمي وتبتعد عن العمل السياسي وعن كل الأنشطة الحزبية عملا بمقولة زعيمها الروحي بديع الزمان النورسي “أعوذ بالله من الشيطان ومن السياسة”، كما تؤكد رفضها خلط الدين مع شؤون الدولة كما يُشدد على ذلك فتح الله غولن، علاوة على أن خلفيتها المذهبية تلتقي مع نفس مرجعية المسؤول عن الشأن الديني بالمغرب وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية الذي يدعم توسيع رقعة الصوفية للتضييق على التدين الحركي والجماعات الإسلامية.
جماعة غولن في ميزان المجتمع المغربي
تباينت مواقف من تحدث موقع “البيان” إليهم بشأن جماعة الخدمة أو جماعة فتح الله غولن، فبالنسبة لسناء منوني باحثة متهمة بالشأن التركي، فترى أن فتح الله كولن رائد نموذج جديد للإصلاح والبناء الحضاري في العالم الإسلامي، معتبرة أن الأزمة الأخيرة التي سلطت الضوء عليه وعلى جماعته التي شهد العالم بأعمالها وآثارها لصالح الإنسان في كل مكان، تؤكد هذه الريادية التي سبقت بمراحل نموذج “الإسلام السياسي”، حسب قولها.
أما عبد المولى الراشدي باحث في الحركات الإسلامية، فإنه يرى أن جماعة غولن من الحركات الصوفية المغرقة في الخرافة والأنطولوجيا لها هوى شيعي انقلبت على أردوغان حين انتقد إيران واصطف ضدها في الأزمة السورية، فضلا عن علاقتها المشبوهة مع الكيان الصهيوني، فهي ثارت ثائرتها أثناء حادثة مرمرة وانتقدت الحكومة التركية بدل “إسرائيل”، ويعتقد المتحدث أن الدعم الذي قدمته الجماعة في السابق لحزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا أخذت مقابله العديد من الامتيازات والنفوذ، وها هي اليوم بمثابة الدولة الموازية والعميقة داخل تركيا ومتحالفة مع الفساد ورموزه.
وحسب شهادة أحد الطلبة القاطنين في بيوت الجماعة بالمغرب، فإن أتباع كولن “أناس يعرفون ٱصول الدين حق معرفته لكن أغلبيتهم لديه أهداف أخرى لا يمكن إدماجها في الإطار الديني، ويمكن القول أنهم يتخذون من التدين وسيلة لقضاء مآربهم وتحقيق طموحاتهم كما يستعمل الشيعة التقية”، ويضيف “لقد تراجعت صورتهم في أوساط المجتمع المغربي وحامت حولهم الشكوك أكثر بعد خروجهم في وجه رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان ووقوفهم أمامه بعد مواجهته للغرب وأمريكا و”إسرائيل”. (مجلة البيان).