قبيل تنصيبه رئيسا جديدا للولايات المتحدة الأمريكية، اتجه “دونالد ترامب” وزوجته إلى كنيسة “سان جون” لأداء الصلاة. وخلال حفل التنصيب الذي أقيم على مدارج مبنى الكابيتول بواشنطن، أحاط “ترامب” نفسه أثناء أداء اليمين الدستورية بأكبر تشكيلة من رجال الدين -حسبما أشارت صحيفة “نيويورك تايمز”.
فقد دعا لحضور مراسيم التنصيب رجال دين مسيحيين ويهود فقط، واستثنى رجال الدين الإسلامي، بحسب ما أفادت مصادر إعلامية هناك!
وقد قام عدد من كبار رجال الديانتين اليهودية والنصرانية بقراءة أدعية وصلوات من أجل “ترامب” على مدار اليوم الذي نُصِّب فيه. يتم ذلك في أعرق الدول علمانية وأكثرها تصديرا لها ورعاية لمبادئها -خصوصا في العالم الإسلامي.
وهي الدولة التي لم يخرج رؤساؤها -الخمسة والأربعون- عن الانتماء للنصرانية، وبالذات المذهب البروتستانتي، إلا في حالة واحدة. وهو عرف محافظ عليه وإن لم تتم صياغته دستوريا. وهذا يعكس إلى أي مدى لا يزال الدين حاضرا في الوعي الأمريكي لدى النخب النافذة والرأسمالية، فضلا عن المجتمع!
حتى هنا الأمر طبيعي، فالناس لا تنفك عن دينها، والغالبية العظمى الممسكة بزمام الأمور تعكس بالضرورة هويتها على الحالة السياسية -سواء في بلد مسلم أو بلد نصراني. ومن غير المنطقي أن تلغى حقوق الأغلبية مراعاة لصالح الأقلية، لأن من طبيعة الكثرة أن تغلب القلة عند امتزاجهما.
أما غير الطبيعي فهو أن يستدعي العلمانيون العرب الغرب كنموذج يحتذى به في السياسة والثقافة والحياة ثم يرفضون حضور الدين في السياسة، أو مشاركته في صياغة القوانين العامة، في بلدان يشكل التدين الظاهرة الأبرز فيها. وكأنَّه حلال على الغرب أن يمسك بدينه على الرغم من علمانيته، ويستصحبه في أقواله وأفعاله ومواقفه وخططه الرسمية، وحرام على المسلمين ذلك، وهم الذين يرون السياسة من صلب دينهم!
لقد هاجم “ترامب” -في حملته الانتخابية- المرشحة الديمقراطية “هيلاري كلينتون”، بالقول: “نحن لا نعرف أي شيء عن هيلاري من ناحية الدين، هي شخصية مشهورة منذ سنوات، ولكن ليس هناك مشاركات دينية لها!”.
وقد علق “باكاري سيليرز”، مساند “هيلاري كلنتون”، على ذلك بالقول: “هيلاري كلينتون تسير بخطوات إيمانها والتشكيك في ديانتها أمر غير معقول. هيلاري مثل أي امرأة أخرى، تمرُّ بأوقات جيدة وسيئة، وعندما تواجه موقفاً سيئاً تركع وتصلي للرب. وهي بذروة الإيمان المسيحي”.
ساسة الغرب لم يتجردوا من هويتهم، ولا زالوا يعبرون عن معتقداتهم الدينية كلما سنحت الفرصة لذلك. وعداءهم للإسلام لا ينفك عن معتقداتهم الدينية.
فها هو الرئيس الأمريكي الجديد، كما هو حال الرؤساء السابقين، يدفع باتجاه معاداة الإسلام والمسلمين.
فـ”ترامب”، الذي انتخب رئيسا للولايات المتحدة بدَعمٍ قَوِيٍّ مِن الطائفة المسيحية المحافظة، اختار في عضوية إدارته الجديدة شخصيات تتبنى أراء دينية متطرفة. وإضافة إلى ذلك سبق وأن دعا أثناء المنافسة الانتخابية على الرئاسة لحظر دخول المسلمين للولايات المتحدة، وأكد على ضرورة تسجيل تفاصيل المسلمين الأمريكيين في قاعدة بيانات خاصة، من خلال أماكن متعددة من بينها المساجد!
كما أن “نيوت غينغريتش”، رئيس مجلس النواب السابق المقرب منه، قال: “إن الحضارة الغربية في حَالَةِ حَربٍ”، مقترحا “إخضاع كل شخص موجود هنا (في الولايات المتحدة) وله أصول مسلمة لاختبار. وإذا كان يؤمن بالشريعة فيجب طرده إذ أن هذا يتعارض مع الحضارة الغربية”!.
هذا الموقف العدائي عبر عنه “ترامب” صراحة، في حفلة التنصيب أمام مبنى الكابيتول، في أول كلمة له بصفته الرئيس الجديد للولايات المتحدة، قائلا: “سنوحد العالم ضد الإرهاب الإسلامي المتطرف، وسنمحيه من على وجه الأرض”. وأضاف: “سنحافظ على التحالفات القديمة وسنبني أخرى جديدة”.
وهذا الموقف يمكن أن يزيد من الموجة العدائية تجاه الولايات المتحدة، خاصة مع نية “ترامب” لنقل السفارة الأمريكية إلى القدس كعاصمة لدولة إسرائيل!
وخطاب “ترامب” الذي انتقده أمريكيون -على اختلاف توجهاتهم- عَمد إلى إظهار الإرهاب لصيقا بالدين الإسلامي دون غيره؛ وهو الدين الذي ينضوي تحته قرابة مليار ونصف الميار مسلم، وينال المرتبة الأولى في العالم من حيث الانتشار والتوسع. وهو أول رئيس أمريكي يستخدم كلمة “الإسلام الراديكالي” في خطابه الأول أثناء حفل تنصيبه.
إن “الإسلام الراديكالي” مصطلح بديل لـ”الإرهاب”، وهو يعكس مدى توسيع دائرة الاستهداف على الهوية، حتى لأولئك الذين كانوا يصنفون لدى الإدارات الأمريكية سابقا على أنهم معتدلون، كجماعة “الإخوان المسلمين”! فقد دعا مرشح ترامب لوزارة الخارجية “ريكس تيلرسون” إلى القضاء على “داعش” من أجل التفرغ لتنظيمات أخرى، محدداً بينها القاعدة وجماعة الإخوان المسلمين؛ لأنها تنشر سمومها الأيديولوجية عبر وسائل التواصل الاجتماعي! كما هاجَمَ “جايمس ماتيس”، وزير الدفاع، جماعة الإخوان المسلمين والإسلام السياسي!
من جانبه قال “توم حرب” مدير التحالف الأمريكي الشرق أوسطي للديمقراطية في حديث تلفزيوني: “إن ترامب لم يقصد الإسلام كعقيدة ولا هو يقصد أيضاً التيارات المعتدلة والإصلاحية؛ لكنه يقصد التيارات المتطرفة والتي تنبثق من جانبين: أولها تلك التي تغذّيها إيران وحزب الله، والأخرى تلك المنبثقة من أفكار جماعة الإخوان المسلمين”!.
إن استهداف الدول المحورية في المنطقة بقوانين وتقارير دولية تدينها، وسياسة تطويقها عسكريا واقتصاديا، بالتحالف مع قوى إقليمية كإيران، ثم استهداف الحركات الإسلامية والفصائل الثورية عموما، تحت شعارات متعددة، ليست إلا تكتيكا قذرا لمحاربة الإسلام لا غير.
وقد شرحت مجلة “أتلانتيك” الأمريكية خطط حكومة ترامب، وإعلانها الحرب على الراديكالية الإسلامية، بالقول: “دونالد ترامب قد يوجّه الجهود الأمريكية في محاربة الإرهاب في اتجاه مختلف، وقد جادل العديدُ من المعنيين بالأمن القومي بأن الولايات المتحدة في حالة حرب مع الإرهاب الإسلامي المتطرف، أو الإسلامي الراديكالي أو شيء أوسع من ذلك، مثل الإسلام”.
ثم تابعت القول: “وقد وُصفت هذه الحرب بأنها في المقام الأول صراع أيديولوجي للحفاظ على الحضارة الغربية، مثل الحروب ضد النازية والشيوعية والتي خاضها الغرب سابقاً”.
هكذا وبكل صراحة ودون أي مواربة يتظاهر الغرب بهويته الدينية، ويطلب من المسلمين التخلي عن هويته، وإلا فإن الحرب قادمة عليهم تحت أي شعار وفي ظل أي لافتة!
فهل يكف العلمانيون من تخدير الضمائر ودغدغة المشاعر وتجميل الصورة القبيحة..؟!
مركز التأصيل للدراسات والبحوث