ما أحوجنا في زمن قست فيه القلوب, وظهرت الذنوب, ولم يستحي الكثير من علام الغيوب: إلى المواعظ الحسنة.
نعم ما أحوجنا إلى الموعظة الحسنة في وقت كثرت فيه الدعوات الأرضية المضلة, واشتد فيه الظلام وظهر الباطل على الحق ظهورا آنيا, وسيطرت فيه المادية حتى تغيرت كثير من القيم السامية.
نعم ما أشد ضرورة العبد المسلم إلى المواعظ التي تثبت قلبه في زمن حار فيه الكثير من الناس فانغمسوا في القيم الهابطة التي غزت العقول والقلوب والمجتمعات.
في تهذيب اللغة قال: “العظة والموعظة وكذلك الوعظ, والرجل يتعظ: إذا قبل الموعظة حين يذكر الخير ونحوه مما يرق لذلك قلبه” 3/164.
وفي لسان العرب قال: “والموعظة النصح والتذكير بالعواقب وتذكير الإنسان بما يلين قلبه من ثواب وعقاب” 15/345.
فالموعظة إذن تذكير قائم على دعامتي الترغيب والترهيب.
قال ابن القيم رحمه الله كما في التفسير القيم 344 في بيان معنى الموعظة: “هي الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب”، وذكر مثله العلامة السعدي رحمه الله في تفسيره 4/254.
فالوعظ أسلوب دعوي له أهميته البالغة في إصلاح القلوب وتهذيب النفوس, ذلك أنه متعلق بطب الأرواح وعلاجها من أمراضها الفتاكة القاتلة فما أحوجنا إلى ذلك.
نعم يحتاج الناس كلهم إلى المواعظ والتذكير صغيرهم وكبيرهم جاهلهم وعالمهم فاجرهم وتقيهم, ولو كان أحد في غنية عنها لكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان عليه الصلاة والسلام يتعهدهم بالمواعظ ويهذب نفوسهم بما يرقق قلوبهم.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: “وكانت مجالس النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه عامتها مجالس تذكير بالله وترغيب وترهيب، إما بتلاوة القرآن أو بما آتاه الله من الحكمة والموعظة الحسنة وتعليم ماينفع في الدين كما أمره الله تعالى في كتابه أن يذكر ويعظ ويقص, وأن يدعوا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن يبشر وينذر وسماه الله (مبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله) والتبشير والإنذار هو الترغيب والترهيب فلذلك كانت تلك المجالس توجب لأصحابها رقة القلوب والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة” لطائف المعارف 45.
فالموعظة سبيل للهدى والرحمة والشفاء لما في الصدور كما قال سبحانه: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ” لأجل ذلك أمر الله تبارك وتعالى بها نبيه عليه الصلاة والسلام فقال تعالى: “وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً”.
وعن أبي نجيح العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: ” وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة وجلت منها القلوب ودرفت منها العيون…” الحديث حسن صحيح.
قال الدمياطي رحمه الله في شرح الأربعين عند هذا الحديث: “(وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة) من الوعظ وهو النصح والتذكير بالعواقب, وأتى لنا بكلام دال على التخويف بطريق النصيحة والتذكير بالعواقب لأجل ترقيق القلوب، والتنوين في موعظة للتعظيم والتفخيم أي بموعظة عظيمة بليغة.
(وجِلت): بكسر الجيم أي خافت: (منها القلوب وذَرَفت) بفتح الذال المعجمة والراء أي سالت (منها العيون) أي دموعها وفي ذلك إشارة إلى أن تلك الموعظة أثرت في نفوسهم وأخذت بمجامعهم ظاهرا وباطنا، وهذا دليل على كمال معرفتهم ومراعاتهم لربهم”.
وقال ابن القيم رحمه الله: “الانتفاع بالعظة: هو أن يقدح في القلب قادح الخوف والرجاء فيتحرك للعمل طلبا للخلاص من الخوف ورغبة في حصول المرجو” المدارج 1/477.
وها هو الإمام الذهبي رحمه الله يبين أهمية الرقائق والمواعظ في تليين القلب وصفائه كما في ترجمة الإمام القدوة الرباني أبي شريح عبد الرحمن بن شريح المعافري الإسكندراني العابد قال في السير 7/183: “قال هانئ بن المتوكل حدثني محمد بن عبادة المعافري قال: كنا عند أبي شريح فكثرت المسائل، فقال: قد درنت قلوبكم فقوموا إلى خالد بن حميد المهري استقلوا قلوبكم، وتعلموا هذه الرغائب والرقائق فإنها تجدد العبادة وتورث الزهادة وتجر الصداقة وأقلوا المسائل فإنها في غير ما نزل تقسي القلب وتورث العداوة.
قلت (أي: الذهبي): صدق والله فما الظن إذا كانت مسائل الأصول ولوازم الكلام في معارضة النص فكيف إذا كانت من تشكيكات المنطق وقواعد الحكمة ودين الأوائل؟! فكيف إذا كانت من حقائق الاتحادية وزندقة السبعينية ومرق الباطنية؟! فوا غربتاه, ويا قِلَّة نا صراه آمنت بالله ولا قوة إلا بالله”.
وقال ابن الجوزي رحمه الله في تلبيس إبليس في معرض الكلام عن تلبيس إبليس على بعض الفقهاء الذين دخلوا في الجدل وكلام الفلاسفة: “ومن ذلك إيثارهم القياس على الحديث المستدل به في المسألة ليتسع لهم المجال في النظر, وإذا استدل أحد منهم بالحديث هجن, ومن الأدب تقديم الاستدلال بالحديث ومن ذلك أنهم جعلوا النظر جل اشتغالهم ولم يمزجوه بما يرقق القلوب من قراءة القرآن وسماع الحديث وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
ومعلوم أن القلوب لا تخشع بتكرار إزالة النجاسة والماء المتغير, وهي محتاجة إلى التذكار والمواعظ لتنهض لطلب الآخرة.
ومسائل الخلاف وإن كانت من علم الشرع إلا أنها لا تنهض بكل المطلوب ومن لم يطلع على أسرار سير السلف وحال الذي تمذهب له لم يمكنهم سلوك طريقتهم.
وينبغي أن يعلم أن الطبع لص فإذا ترك مع أهل هذا الزمان سرق طبائعهم فصار مثلهم فإذا نظر في سير القدماء زاحمهم وتأدب بأخلاقهم.
وقد كان بعض السلف يقول: حديث يرق له قلبي أحب إلي من مائة قضية من قضايا شريح.
وإنما قال هذا لأن رقة القلب مقصودة ولها أسباب” تلبيس إبليس 129-130 منتقاه.
فالموعظة لها أثرها العظيم في النفوس مما يدل على أهمية توجه بعض أهل السنة للتخصص في هذا الفن العظيم والصناعة الجليلة -بقواعد أهل السنة والأثر- خاصة أن كثيرا من الناس يميل بطبعه إلى ما يرقق القلوب، فإذا جلس في بعض المجالس مع ما فيها من علم وسنة لم يجد ما تميل إليه نفسه فيبحث عن غيرها فيقع في مستنقع البدعة والخرافة والهوى, فليتأمل العقلاء هذا.
قال العلامة القاسمي رحمه الله في موعظة المؤمنين: “موعظة العامة والتصدي لإرشادهم في الدروس العامة من الأمور المهمة المنوطة بخاصة الأمة إذ هم أمناء الشرع ونور سراجه ومصابيح علومه وحفاظ سياجه”.
ولذلك كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه له في كل يوم خميس موعظة يذكر الناس بها فقال له رجل يا أبا عبد الرحمن لوددت أنك ذكرتنا كل يوم قال: “أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم وإني أتخولكم بالموعظة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها مخافة السآمة علينا” البخاري.
وكان للحسن البصري رحمه الله مجلس خاص في منزله لا يكاد يتكلم فيه إلا في معاني الزهد والنسك وعلوم الباطن فإن سأل إنسان غيرها تبرم وقال: إنما خلونا مع إخواننا نتذاكر. انظر السير 4/479.
مع التنبيه ألا تأخذ الموعظة أسلوبا وطريقا لم يكن معهودا أيام السلف الصالح كقيام طائفة من الناس بولوج هذا الباب بلا علم ولا فقه، وذلك على حساب هدم معالم أخرى يجب أن تكون هي المسلوكة أولا, فترى الواحد من هؤلاء يعظ بفضائل الأعمال دعوة وإرشادا ولكن لا على سنة وتحقيق بل على بدعة وتلفيق.
فلا بد أن يكون الواعظ على علم بهدي الكتاب والسنة والفقه في الدين على نحو ما كان عليه الوعاظ من قبل، كما يقول ابن الجوزي رحمه الله في تلبيس إبليس 123: “أن الوعاظ كانوا في قديم الزمان علماء فقهاء…ثم خست هذه الصناعة فتعرض لها الجهال فبَعُد عن الحضور عنهم المميزون من الناس, وتعلق بهم الهوام والناس فلم يتشاغلوا بالعلم وأقبلوا على القِصص وما يعجب الجهلة، وتنوعت البدع في هذا الفن” قلت: هذا كلامه رحمه الله في زمانه فماذا سيقول يا ترى لو أدرك زماننا.