بين العلامة (محمود شاكر) والفيلسوف (رينيه ديكارت)

(قد بيّنتُ لك ما استطعتُ طبيعةَ هذا الميدان، ميدان “ما قبل المنهج”، وطبيعة النازلين فيه من الكتّاب والعلماء والمفكّرين، ثم المخاوفَ التي تتهدَّدُ “ما قبل المنهج” بالتدمير والفسادِ حتى يُصبحَ ركاما من الأضاليل، وحتى تفسُدَ الحياة الأدبية فساداً يستعصي أحيانا على البُرء.
وأمرُ النازلين فيه أمرٌ شديد الخَطَر، يحتاج إلى ضبطٍ وتحَرٍّ و حَذَر. ولا يغرُرك ما غَرِي به (أي أولِع)، بعضُ المتشدّقين المُموِّهين: “أنّ القاعدة الأساسية في منهج ديكارت، هي أن يتجرّدَ الباحثُ من كلّ شيء كان يعلمُه من قبلُ، وأن يستقبِلَ بحثَه خالِيَ الذّهن خلُوّاً تاما مما قيل”، فإنه شيءٌ لا أصل له، ويكاد يكون، بهذه الصِّياغة، كذِباً مُصفّى لا يشوبُه ذروٌ من الصدق (والذرو: دقيق التراب)، بل هو بهذه الصورة خارجٌ عن طوق البشر.
هَبْهُ يستطيع أن يُخلي ذهنَه خُلوا تاما مما قيل، وأن يتجرد من كل شيء كان يعلمُه من قبل، أَفَمُستطِيعٌ هو أيضا أن يتجرّدَ من سلطان “اللغة” التي غُذِّي بها صغيرا، و بها صار إنسانا ناطقا بعد أن كان في المهد وليدا لا ينطق؟
أفمستطيعٌ هو أن يتجردَ من سطوة “الثقافة” التي جرتْ منه مجرى لِبانِ الأم من وليدها؟
أفمستطيعٌ هو أن يتجرّدَ كلّ التجرُّد من بطشةِ “الأهواء” التي تستكين ضارعةً في أغوار النفس وفي كهوفها، حتى تمرُقَ من مكمنها لتستبِدَّ بالقهر وتتسلَّطَ؟
كلامٌ يجري على اللسان بلا زِمامٍ يضبطُهُ أو يكبَحُهُ، محصولُه أنه يتطلب إنساناً فارغاً خاوياً مكوَّناً من عظامٍ كُسِيتْ جلداً، لا أكثر) !(رسالة في الطريق إلى ثقافتنا؛ للعلامة أبي فهر محمود محمد شاكر؛ ص29-30)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *