جاء الإسلام بالدعوة إلى حسن ترشيد النفقات، وإلى تقويم وتدبير ما أنعم الله به على عباده من الخيرات، وحذر من الإسراف والتبذير ورغب في الاقتصاد والتوفير، فالإسراف في عمومه مذموم والتبذير في مجمله مرفوض، وهو في حقيقته المجاوزة والتعدية والإفراط، يقول ابن منظور: “السرف والإسراف: مجاوزة القصد. وأسرف في ماله: عجل من غير قصد، وأما السرف الذي نهى الله عنه، فهوما أنفق في غير طاعة الله، قليلا كان أو كثيرا. والإسراف في النفقة: التبذير” لسان العرب 7/173.
وقد ذم الله تعالى المسرفين، يقول الله عز وجل: “وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ” الأنعام:31. وجعل المبذرين في مرتبة إخوان الشياطين، يقول الله عز وجل: “وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً” الإسراء:26-27، فالتبذير كفر بالنعمة والإسراف وجه من وجوه إفسادها بالتضييع الذي يمحق منفعتها ويقطع سبل إيصالها إلى من هو في أمس الحاجة إليها، فنجد كثيرا ممن فتح الله عليهم أبواب خيراته، يرمون ما فضل عليهم من أطعمة في القمامات، في حين أن إخوانهم من المسلمين يعانون من الجوع والعطش، والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يوصينا بالعناية بالفقراء إطعاما، إذ يقول: “إنَّ الله عزَّ وجلَّ يقول يومَ القيامة: يا بنَ آدم اسْتَطْعَمْتُكَ فلم تُطعمني، قال: يا رب، كيف أطعِمُكَ وأنتَ ربُّ العالمين؟ قال: أمَا علمتَ أنه استطعمكَ عبدي فلان فلم تُطْعِمْهُ، أمَا علمتَ أنَّكَ لو أطعمته لوجدتَ ذلك عندي” مسلم:43.
ونحن نعيش أيام الفضل والخير والمغفرة في شهر رمضان، فلابد للمسلم أن يستحضر ضرورة الاقتصاد في الإنفاق وتجنب ما يفضي إلى الإسراف والتبذير، فرمضان في حقيقته شهر لكبح جماح الشهوات والتحكم في زمام الغرائز والجوارح، وتدريب للنفس على الصبر وتحمل مشقة الجوع والعطش واستشعار لما يعانيه الفقراء والمساكين من تلك المشقة طول السنة، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: “إن أول بلاء حدث في هذه الأمة بعد قضاء نبيها صلى الله عليه وسلم: الشبع، فإن القوم لما شبعت بطونهم سمنت أبدانهم، فتصعبت قلوبهم، وجمحت شهواتهم” البخاري في “الضعفاء”، كما عزاه إليه الذهبي في “ميزان الاعتدال” (3/335 )-، ورواه ابن أبي الدنيا في “الجوع” رقم:22.
فيتذكر العبد نعم الله تعالى عليه، ويبادر إلى حمده عز وجل عليها بالتصدق أولا على من هم في حاجة إليها، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا” أخرجه أحمد:17074، وثانيا بالحذر والاحتياط من تجاوز الحد المعقول، وتعدي المستوى الجائز في الاقتناء والاستهلاك سواء في الطعام أو الشراب أو الوقت أو الطاقة أو غيرها، والله عز وجل يقول: “كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ۖ وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ” الأنعام:141.
فالاعتدال في الشراء والاستهلاك مطلوب، يقول الله تعالى: “وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً” الإسراء:29. والاقتصاد في الإنفاق والمصروف مرغوب، يقول الله عز جل: “وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً” الفرقان:67. معناه: “لم يسرفوا أي لم يضعوه في غير موضعه، ولم يقتروا لم يقصروا به عن حقه” لسان العرب لابن منظور، ص:7/173.
لكننا وللأسف الشديد، نرى أن شريحة واسعة من المجتمع، لا تتمثل هذه القيم ولا تنضبط بهذه الضوابط خلال شهر رمضان، فنجد صفة الإسراف في هذا الشهر تتخذ مظاهر عدة ابتداء من الإسراف في المأكل والمشرب، فيسعى الشخص إلى المبالغة في تحضير الأطعمة والحلويات وتنويعها والإكثار من الوجبات، مما يسبب تثاقلا في البدن وكسلا في النفس، فتعجز عن الطاعات وتركن إلى النوم الراحة، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: “ما ملأ آدمي وعاء شرًّا من بطن، حسب الآدمي لقيمات يقمن صلبه، فإن غلبت الآدمي نفسه، فثلث للطعام، وثلث للشراب، وثلث للنفس” جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي ح:47، ص: 467.
وفي كثير من الأحيان لا يتم استهلاك تلك الأطعمة بالكامل لكثرتها، فيكون مصيرها الفساد والضياع، وهذا يتنافى مع خلق المسلم، فهذا الإسراف قد يستوجب غضب الله عز وجل، يقول الله تعالى: “كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلاَ تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى” طه:81.
وقد يتخذ الإسراف مظهر تبذير للوقت بالعكوف الساعات الطوال أمام التلفاز ومتابعة المسلسلات والأفلام التافهة، على حساب أوقات العبادة والقيام والذكر وتلاوة القرآن، ومن ذلك الاستغراق في النوم طول النهار، تهربا من الإحساس بمشقة الجوع والعطش وتجنبا لعناء الصوم والصبر عليه، ومن مظاهر الإسراف كذلك، الإكثار في الكلام الذي لا طائل منه والخوض في أعراض الناس واللغو المنهي عنه، في مجالس السهر وفي المقاهي والأندية، فلا يؤدي ذلك إلا إلى نقصان الأجر وبطلان العمل وهلاك الحسنات، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْلَ فَلَيْسَ لله حَاجَة فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرابَه” البخاري:5710.
ومن صور التبذير في رمضان، نجد الإسراف في المال وفي النفقات المنزلية، فقد يشتكي كثير من الناس من ارتفاع وتيرة المصروفات في شهر رمضان، وتزايد متطلبات البيت على خلاف باقي شهور السنة، إلا أن هذا المبرر في الواقع لا يعدو سوى ذريعة لتبرير عدم القدرة على ضبط شهوة النفس والعجز عن التحكم في رغباتها، خصوصا وأن الأسواق والمحلات في هذا الشهر تصير أكثر إغراء وأقوى اجتذابا للناس، بما تعرضه من مواد استهلاكية، قد تتميز في جودتها وتنوعها عما توفره خلال باقي شهور السنة.
إضافة إلى ذلك فالصائم قد يقضي يومه ممسكا عن الطعام والشراب، كابحا لهاتين الشهوتين، إلا أنه مع اقتراب وقت المغرب، قد يعتريه بعض الضعف في مقاومة شهوته أمام ما يجتذبها من صنوف الأكل والشرب، فينصاع لها بالاسترسال في الشراء والاقتناء، وهذا من المزالق التي يقع فيها كثير من الناس، وهو من باب الإسراف والتجاوز في تقدير المطلوب، ويشهد على ذلك ما روي عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه: “قال جابر -ابن عبد الله-: اشتهى أهلي لحما فاشتريته لهم، فمررت بعمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: “ما هذا يا جابر؟” فأخبرته، فقال: “أو كلما اشتهى أحدكم شيئا جعله في بطنه، أما يخشى أن يكون من أهل هذه الآية: “أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ” الآية” الأحقاف:20. الجامع لأحكام القرآن لأبي عبد الله محمد القرطبي، 16/202.
وقانا الله وإياكم وجميع المسلمين شرَّ الإسراف والتبذير، وجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والحمد لله رب العالمين.