لم يعد خَفِيا على أحد أن العالم اليوم يستعد لدخول مرحلة جديدةمن عمر البشرية فوق كوكب الأرض، مرحلة نظامٍ جديد ستستمر -والله أعلم- لأكثر من ثلاثة عقود إذا ما قسناها على المدة التي دام فيها نظام الأحادية القطبية التي هيمنت فيه أمريكا على العالم، فعربدت كما تحلو لها العربدة، فرأيناها في الصومال وأفغانستان والعراق تقتل وتسرق وتستنزف ثروات المسلمين، عشنا معها شنق الرئيس صدام حسين والإبادات الجماعية في الفلوجة والأنبار، رأينا حرقها للأخضر واليابس في أفغانستان، رأينا كيف سلمت العراق السني في صفقة القرن الكبرى لإيران، مقابل السماح للجيوش الأمريكية بتصفية دولة طالبان وتدمير القوة العسكرية للعراق، وإبادة التيارات الإسلامية المعادية للسياسة التوسعية التي انتهجتها الولايات المتحدة الأمريكية في بلدان المسلمين.
باختصار لقد تمت إزاحة كل عنصر يمكن أن يهدد مصالح من سيحكم العالم في مرحلةالنظام الدولي الجديد،فقد دمرت الجيوش العربية التي كانت تخيف الكيان الصهيوني، كما تم تغيير كل القادة في كبريات الدول العربية وتنصيب من له الاستعداد لخدمة القوى التي ستهيمن في المرحلة القادمة، ومن لم يستبدل تم تركيعه وتحديد موقعه والدور الذي عليه أن يلعبه في النظام الدولي الجديد، فرأينا أولى “بركاتهم”تتجسد بقوة في السعي الحديث نحو التطبيع، وإجراء تعديلات كبيرة ماكرة وعقيمة على مستوى الدين والسياسة، كما تم تفكيك التيارات الإسلامية وتدنيسها وسحب كل مكتسباتها التي حصلتها خلال الحرب الباردة الأولى لما كانت أمريكا تحتاج الإسلام للوقوف في وجه التمدد الأحمر لدولة البلاشفة في الاتحاد السوفييتي.
ومثل كل الدورات التاريخية الماضية ستتحكم في هذه المرحلة الدول التي ستستطيع اليوم أن تتموقع في المكان الصحيح لامتلاك القوة وممارستها، ويبدو أن العالم لا يزال أصغر من الخمسة الكبار الذين حكموه في القرن العشرين والربع الأول من هذه الألفية الثالثة، أولئك الذين يستحوذون على اللعب بمصائر الدول الضعيفة التي يتخذونها مناجم يستخرجون منها ما يحتاجونه من خيرات ليحافظوا على مستوى ترفهم وحياتهم.
أما الحرب في أوكرانيا فما هي إلا محاولة لضبط الجغرافية السياسية للعالم الجديد، الذي يغلب على الظن أنه سيعيش مرحلة أخرى لحرب طويلة دولية باردة في أمريكا والصين وروسيا وفرنسا وبريطانيا، لكنها ستكون حمراء ساخنة بل مشتعلة في الدول الضعيفة، تماما كما كان الشأن في الحرب الباردة الأولى.
في هذا السياق المحموم يحاول المغرب أن يتموقع داخل القطب الليبيرالي بجانب أمريكا ودولة اليهود “إسرائيل” وبريطانيا وجزء كبير من دول حلف الناتو، ولا يهمنا المعسكر الاشتراكي بقطبيه الصيني والروسي، وإنما التخوف كل التخوف من الحلفاء.
فإلى أي مدى يستطيع المغرب أن يصمد في وجه الطبيعة الميكيافيلية الخادعة الماكرة للقطب الصهيوأمريكي؟خصوصا بعد أداء ثمن تسوية ملف الصحراء والمتمثل في التطبيع مع اليهود الصهاينة.
والصهيونية هنا ليست سبا أو شتما إنما هي وصفٌ تقريريٌّ لحال يصرح بها صاحبها ولها منظماتها ومشاريعها المعلنة أمام الجميع. فاليهود الذين يرجعون اليوم من الكيان الغاصب إلى المغرب، ليسوا هم اليهود الذين كان آباؤهم يسكنون تنغير والصويرة وميسور، بل هم يهود منخرطون عقديا في الفكر الصهيوني الذي يعطي أصحابه ولاءهم الأول والأخير للوطن القومي الذي اغتصبته الصهيونية من المسلمين في فلسطين، بمباركة الغرب، حيث كان ترسيم هذا الاغتصاب من أوائل القرارات التي اتخذتها الأمم المتحدة في منظمتها الوليدة آنذاك، منظمة الأمم المتحدة.
إن مفهوم المكون العبري سواء في الدستور أو السياسة المغربية، لم تعد له دلالة إثنية أودينية فقط، بل صار له حمولة سياسية ستؤثر على كثير من التوازنات الثقافية والسياسية والمالية/الاقتصادية، فمن يمنع -من الناحية النظرية والقانونية- يهوديا صهيونيا ، -كان بالأمس يشتغل في الجيش الصهيوني يقتل الفلسطينيين-، أن يتقدم للانتخابات فيصبح عمدة لمدينة الرباط أو الدار البيضاء أو غيرها، أو وزيرا للاقتصاد أو حتى وزيرا للداخلية.
المتابع لما يجري في دولة الإمارات العربية يرى كيف تحولت هذه الدولة إلى دولة يحظى فيها الصهاينة بنفوذ كبير وقوي، كان سببا في تمزيق دول الخليج واختراق أنظمة دولها، بل صارت هذه الدولة المذكورة تقوم بالوكالة عن الصهيونية بأعمال كبرى في اليمن وليبيا وتركيا.
إن يهود الشتات اليوم بعد أن تمكنوا من اغتصاب أغلب التراب الفلسطيني، يعود الكثير منهم اليوم إلى بلدانهم الأصلية ليلعبوا الدور الأهم وهو بناء أرضية صالحة لحكم “إسرائيل” لدول العرب في إطار الشرق الأوسط الكبير، والذي يضم بلدان الخليج وشمال إفريقيا ودول المغرب الكبير، فلئن كان النظام الدولي الأسبق بعد الحرب العالمية الثانية قد تمخض عن ولادة دولة الكيان الصهيوني، فإن النظام الدولي الجديد اليوم سيتمخض عن شرق أوسط كبير تحكمه إسرائيل، خصوصا بعد تدمير كل القوى العربية وتركيع أغلب الدول الإسلامية وإبادة النخب الإسلامية وشراء بقايا النخب الاشتراكية.
إن المكانة الكبرى التاريخية والدينية للمغرب في إفريقيا ستستغل أبشع استغلال من طرف حلفائه، فإفريقيا اليوم تخرج من تحت النفوذ الأوربي الغاشم الحقير، لتدخل تحت النفوذ الصهيوأمريكي، والصيني، إفريقيا منجم العالم وكنزه الذي لا ينضب، أمامها مرحلة ستخرجها من الفقر والاستنزاف لتدخل إلى مرحلة بناء دول حديثة راقية لكن أبناءها الأصليين سيعيشون تحت نظامالسخرة والعبودية الطوعية، في ظل السياسة الصهيوأمريكية، فالعم صام الذي تهيمن عليه الصهيونية يعطيك الطرق والموانئ لا ليقيم لك اقتصادا يعود عليك بالغنى وعلى دولتك بالقوة والاستقلال، بل ليجعل من أبنائك خدما لشركاته الكبرى، وأفواها تستهلك ما تنتجه آلاته وكل ذلك بتمويل منك.
إن المغرب يحتاج إلى يقظة تامة سواء على المستوى السياسي أم على المستوى الأهلي والشعبي، فالطبيعة التوسعية الإمبريالية لليهود والأمريكان، لن ترأف بالمغرب والمغاربة، وفي الفكر السياسي أو في الواقع التدافعي الدولي، ليس هناك حليف أو صديق إلى الأبد، وإنما هناك المصالح فقط؛ والمصالح لا تحققها عبارات المجاملات وإنما تقيمها على أرض الواقع القوة والقوة ولا شيء سوى القوة وبمعانيها المختلفة والمتعددة.
إن الاقتصاد الدولي في المرحلة القادمة سيكون أكثر شراسة وقوة مما كان عليه خلال الحملات الاستعمارية التوسعية ومرحلة ما بعد الحربين الدوليتين، فما بعد الحداثة لم تترك للإنسان قيمة، بل جعلته مادة خاما صالحة للتشكيل في الآلة الاقتصادية، قابلة للبيع والتبعيض والتجزيء، فلا قيمة للإنسان ولا لدينه ولا لوجوده إلا بالقدر الذي يخدم النظام الاقتصادي الامبريالي المتسلط على الكل شيء.
لذا، فالمغرب كما يحتاج إلى اقتصاد قوي وتطور مادي يكسبه القوة، هو أيضا وبالأساس يحتاجإلى سياسة تعزز خصوصياته ومقومات هويته التي ضمنت له الاستمرار عبر قرون مديدة، والتي بنيت على الإسلام عقيدة وشريعة ومنهاجا، فمع هذه العولمة الكاسحة وهذه الموجة الصهيونية العاتية والهادئة في نفس الوقت، لن يبقى للمغرب وجود بعد نهاية مرحلة النظام الدولي الجديد إن لم يحسن مَن يسير شؤونه تدبير ملفات الخصوصيات المغربية بعيدا عن مفهوم التعايش الداعر، والتسامح الخانع، فالخصوصيات ينبغي أن تقوم الدولة بحمايتها وحراستها، لا من خطر متوهم يتقاسم معنا نفس الخصوصيات، بل من الغريب الذي على طول التاريخ يستهدف مقومات هويتنا وعلى رأسها الدين.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.