العلمانيون والاستعمار والربيع العربي (رسالة إلى صاحب الجوهر العقدي والمكنون الحكمي) حماد القباج

إن مما أسفر عنه صبح الثورات العربية؛ كشف ظلام العلمانية الذي أرخى سدوله على واقع الأمة منذ فجر الاستقلال الذي تسلمت بموجبه الشعوب المحتلة مفاتيح إدارة دولها في إطارٍ محدد لا يُسمح لها بالخروج عنه، والعمود الفقري لذلك الإطار هو نظام الحكم والسياسات المتفرعة عنه؛ فهذه ينبغي أن تبقى تابعة للإملاءات خاضعة للوصاية بما يحفظ مصالح المستعمر الذي طور وسيلة هيمنته من احتلال عسكري دموي ديكتاتوري إلى تكريس عولمة شاملة في السياسة والاقتصاد والثقافة والأنماط الاجتماعية..
شوملة تصهر مبادئ الأمم وتفترس خصوصياتها.
ونجاح هذه العولمة رهين بوجود فئة من الأمة تكون قابلة للتخلي عن مبادئها والتنكر لتاريخها وقيمها الخاصة التي تميزها عن سائر الأمم..
لقد فشل “الظهير البربري” في فصل المغاربة عن شريعة دينهم؛ إلا أن الامبريالية الاستعمارية نجحت في إنتاج نخبة من المثقفين تتبنى المشروع الاستعماري الأكبر؛ ألا وهو فصل الدين عن الدولة وتفريغ الإسلام من حمولته التشريعية والمبادئ والقيم التي تؤطر السياسات ونظام الحكم.
تشكلت هذه النخبة من خلال “الابتعاث التغريبي” ونشر “الدراسات الاستشراقية” المضللة، ثم من خلال “مناهج التعليم” و”الإعلام الموجه”، ترسانة هائلة من وسائل التأثير أفرزت وكلاء مستلَبين فوض إليهم المستعمر مهمة استكمال مشروعه الذي لم يتخلى عنه إلا على وجه (تكتيكي) يعتمد خطة “الفر من أجل الكر”.
تغلغل أبناء جلدتنا هؤلاء في مراكز القرار والتدبير السياسي، ومن خلالها بسطوا نفوذهم على المجالات الحساسة والقطاعات المؤثرة في الرأي العام، وانخرطوا في مخطط رهيب لمسخ الهوية وطمس الشخصية الإسلامية مع تسلط فظيع على ثروات الشعب ومقدراته.
إلا أن الرياح جرت بغير ما اشتهاه ملاح هذا المخطط الرهيب؛ حيث حركت الثورات العربية السفن نحو مسارٍ قلَبَ الموازين وغيّر المعادلة، فحصل تشويش كبير وإرباك للمشروع العلماني الاستعماري الذي أكدت الثورات أنه كان من أسباب فشل الأمة ومعاناتها.
لقد عبرت الشعوب الإسلامية عن لفظها للعلمانية من خلال إسقاط سدنتها وحماتها من الحكام العملاء الذين وجدوا في خدمة المشروع الاستعماري غطاء للسلب والنهب ومراكمة الثروات..، كما عبرت عن ذلك بانتخاب الإسلاميين لأنهم الأقرب إلى سياسة شعوبهم بشريعة الإسلام الكفيلة وحدها -وأعني ما أقول- بتخليصهم من أغلال الظلم وأوحال الفقر والضعف ومخالب الاستبداد.
لم تحترم (النخبة) إرادة الشعوب ورفضت الاعتراف بهزيمة الفكر العلماني وذهاب ريحه مع رياح سدنته وحماته، الذين يعتبر طاغية سوريا من أخبثهم وأشدهم بأسا، وقد صرح مؤخرا بأن نظامه هو آخر معقل لصيانة العلمانية في العالم العربي.
موقف (النخبة) دفعها لإنتاج خطاب مزدوج يجمع بين الإشادة بالثورات مع الضجر مما أسفرت عنه من صعود “الإسلام السياسي” إلى مراكز في الحكم، ومن تمتع الدعوة الإسلامية بأجواء من الحرية تمكنها من مواجهة أقوى للفكر العلماني وكشف جنايته الكبيرة على الأمة؛ وفي هذا السياق انقلب الخطاب العلماني على مبادئ الديمقراطية التي تعتبر نخاعه الشوكي؛ وأضحينا نسمع كلاما من قبيل: (الديمقراطية ليست هي الأغلبية)؛ (المبادئ فوق دستورية)، (الشعوب غير واعية)، (ديمقراطية الإسلاميين غير صادقة).. إلـخ.
وانخرط العلمانيون في معارضة (هيستيرية) للحكومات (الإسلامية)، معارضة أنانية تُغيّب المصالح العليا والمقاصد المهمة وتزج بالأمة في أتون صراعات (بيزنطية) انتصارا للمصلحة الذاتية والعلمانية المتهاوية..
إنه منطق رفض الاعتراف بالهزيمة والإصرار على فرض الرأي وازدراء ما يخالفه من الآراء، وهو عين ما تبناه المستعمر قديما حين كان يسوغ احتلاله بمسوغات من قبيل: (الشعوب متخلفة وقد جئنا لإنقاذها / الشعوب لا تستطيع تحديد مسارها الصحيح ..)
من هذا الماء العكر، اصطاد الكاتب محمد بودويك كلمات ومعاني مقالته المطولة تحت عنوان: “رسالة إلى التيار السلفي الاستئصالي”، الذي صب فيه جام كراهيته على السلفيين وآرائهم، رافضا أن يكون للاستعمار والصهيونية والابتعاد عن المحجة البيضاء أي دور في تخلفنا وحيرتنا، وفي هذا الصدد اضطر لرفض المنطوق الصريح لحديث: “تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك” [رواه أحمد وصححه الألباني].
وقد تمحل تأويلا قاصرا لهذا الحديث وحجّم دلالته بقوله: “الحديث يستشرف ويتنبأ بما اقترفه “السفهاء” منا، ما اقترفته الفرق الباغية، وما صنعته يد من تهافت ويتهافت على “الريع” و”الزكاة” و”المال” و”الذهب المكنوز” والفضة “المسومة” والجاه، والحكم، والملك العضوض”.
ولو احترم عقله باحترام التخصص وإسناد عملية تفسير النص إلى أهلها؛ لعلم أن الحديث يفسره حديث مثله، يعطيه دلالة شمولية تقوض أركان الفكر العلماني وتشهد بعدم صلاحيته لقيادة الأمة نحو الكرامة والمجد؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم: “تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة نبيه” [رواه مالك في الموطأ]
إنه نص صريح في ربط اهتداء الأمة وخروجها من التيه؛ بالتمسك بالقرآن والسنة، وهو ما يعتبره الكاتب وغيره من العلمانيين جمودا وحرفية وماضوية تنتج سلفية استئصالية..
إن الحقيقة التي دل عليها الحديث معززة بنصوص كثيرة من الوحي الذي شهد الكاتب نفسه بأنه “الجوهر العقدي، والمكنون الحكمي القيمي الذي يقيس الإنسان في مطلقه، والزمن في جريانه، والمكان في تفتته وانتشاره وتعدده”.
وأضاف قائلا: “بعض مناحي الكتاب (الوحي) متحررة من قيود الزمان، وأرسان المكان، ومن ثم، فهي متعالية متجوهرة عبر التواريخ والأصقاع والجغرافيات”اهـ.
وهذا عين ما تدعو إليه السلفية؛ الرجوع إلى ذلك الجوهر المكنون ليكون أرضية صالحة نحو مستقبل أفضل:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم” [رواه أبو داود وصححه الألباني].
وقال الخليفة الراشد عمر بن الخطاب: “نحن قوم أعزنا الله بالإسلام”.
وقال فيلسوف علم الاجتماع عبد الرحمن بن خلدون:
“العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة؛ والسّبب في ذلك أنّهم لخلق التّوحّش الّذي فيهم أصعب الأمم انقيادا بعضهم لبعض للغلظة والأنفة وبعد الهمّة والمنافسة في الرّئاسة فقلّما تجتمع أهواؤهم فإذا كان الدّين بالنّبوءة أو الولاية كان الوازع لهم من أنفسهم وذهب خلق الكبر والمنافسة منهم فسهل انقيادهم واجتماعهم وذلك بما يشملهم من الدّين المذهب للغلظة والأنفة الوازع عن التّحاسد والتّنافس.. حصل لهم التّغلّب والملك”اهـ [تاريخ ابن خلدون (1/ 189)].
إنها الحقيقة التي ترفضها التيارات العلمانية: لا صلاح لهذه الأمة ولا مجد ولا كرامة؛ إلا بالرجوع إلى هذا الدين عقيدة وشريعة.
وإن مما يرثى له من حال الكاتب؛ أنه نعى على السلفيين ما يراه جمودا واتهمهم باستعمال “مفردات القاموس الجبري التواكلي، الذي هو مدعاة للنوم والاستنامة، والدعة والكسل والخمول والتقاعس، وترك الحبل على الغارب، والنزول عميقا إلى مهاوي الجهالة الجهلاء، ضاربين صفحا عن البحث والشك والتقصي، والاستقصاء والحث على العمل والجهاد الفكري والعلمي والفني والثقافي والتربوي والتكنولوجي”اهـ.
فلما أراد تفسير الجهاد التكنولوجي عبر عنه بحرية المتبرجات وعاملات الجنس وفتح محلات بيع الخمور وإحياء المهرجانات الموسيقية.. !
وهذه أزمة غريبة يعاني منها أكثر العلمانيين؛ وهي تورطهم في إنتاج خطاب يطغى عليه تمجيد الأزبال الفكرية والسلوكية التي تقذف بها مصانع الغرب في واقعنا البئيس، في الوقت الذي لا يهتم خطابهم -بالشكل الكافي- بعناصر التقدم الحقيقية ومفاتيح المعرفة النافعة التي تفتح أبواب التنمية والتطوير التكنولوجي والإداري والاقتصادي ..
لقد بلغ جحود الكاتب مداه حين صرح قائلا: “لا حياة مع الحاكمية الإلهية من حيث كونها مصدرا للتشريع، الحاكمية الآن للبشر”!!
إنها غلواء العلمانية التي تقود إلى إنكار المعلوم من الدين بالضرورة وإنكار الوحي الذي وصفه الكاتب نفسه بقوله: “الجوهر العقدي، والمكنون الحكمي القيمي ومناحي الكتاب المتحررة من قيود الزمان، وأرسان المكان”.
وهنا نتساءل عن مناحي الكتاب التي تنتمي إليها هذه الآيات القرآنية الصريحة في إثبات الحاكمية والتشريع لله رب العالمين:
{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57].
{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ، أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 49، 50].
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44].
{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18].
وهنا نتساءل: ما هي المعايير المتبعة عند الكاتب للحكم على النص أنه من “الجوهر العقدي، والمكنون الحكمي ومناحي الكتاب المتحررة من قيود الزمان، وأرسان المكان”؟
إن كانت الرجوع -كما هو المنطقي- إلى أهل التخصص من علماء الأصول والتفسير؛ فقد أجمعوا على تضمن النصوص السابقة للدلالات التالية:
التشريع والحكم حق للخالق، ولا يجوز للمخلوق من التشريع والحكم والقضاء إلا ما كان مقيدا بشرع الله سبحانه، كما اتفقوا على أن ما شرعه الله لازم لعباده وأنهم محاسبون على العمل به وأنهم معاقبون على تركه، كما أجمعوا على أن هذا المعنى من “مناحي الكتاب المتحررة من قيود الزمان، وأرسان المكان”.
وإن كانت تلك المعايير؛ هي “تاريخانية الجابري” أو “زندقة أركون” أو “مجون حامد أبو زيد”؛ فهذه هي الأهواء التي قال الله فيها: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}

وللحديث بقية بحول الله ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *