رد على مقال: أصول الفقه: تاريخية المبحث وأفق التجديد 2/1 طارق الحمودي

سلسلة: وقفات مع (مؤمنون بلا حدود)

يتوهم دعاة الحداثة القدرة على نقد التراث وأصول الثقافة الإسلامية وطريقة المعرفة السلفية بتصفح وريقات الموروث العلمي تصفح المنقب عن موضع ضعف، مستعملين بعض ما لصق وعلق بأعينهم لا عقولهم من معلومات عند التصفح، دون تحقيق أو استيعاب، فضلا عن الملكة العلمية.
جمع أحد كتّاب (مؤمنون بلا حدود) مقالا نُشر على صفحتهم حاول فيه إقناع القارئ بأن أصول الفقه مشيد على أساس رخو، في بداياته ومقاصده، في استمداده ومواضيعه، فزعم أن هذا العلم مرده إلى رسالة الشافعي، التي كتبها مؤلفها بدوافع أيديولوجية وسياسية، وسيّج بها العقل العربي، ثم ضرب أمثلة لما زعم أنه تشويه للأصول، ومن ذلك في نظره سوء استخدام قاعدة (لا اجتهاد في مورد النص).
سأبدأ بالقاعدة التي زعم زيفها وأن سبب إساءة توظيفها (هو عدم الحرص على ضبط المفاهيم) فقال: (مفهوم النص يحمل بالدلالات المعاصرة التي نضفيها عليه، بينما النص في الماضي يحمل دلالات أخرى).
ويقصد الدلالة على معنى واحد لا يحتمل غيره كما في كتب الأصوليين! ويظهر لي أن هذا من باب (رمتني بدائها وانسلت).
فقد ارتكب الكاتب خطأ مركبا.. فالقاعدة حمالة لوجهين، أما الوجه الأول فـ(لا رأي مع وجود دليل من الكتاب والسنة)، فالنص هنا بمعنى الدليل النقلي، وأما الوجه الثاني فـ(لا حاجة لمحاولة الاستنباط لوجود دلالة واحدة لا احتمال لغيرها) كدلالة الأعداد والأماكن والأعلام.
ولعل الوجه الأول أقدم وأكثر أصالة من الوجه الثاني، فقد ورد استعمالها في صورتها الأولى على ألسنة الفقهاء خاصة، فصح عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: (لا رأي لأحد مع سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، وقد أوردها الخطيب رحمه الله في الفقيه والمتفقه تحت (باب سقوط الاجتهاد مع وجود النص)، فالنص عند المتقدمين مقابل للرأي، وقد وردت القاعدة على ألسنة الأئمة الفقهاء مثل الشافعي الذي قال: (لا يحل القياس والخبر موجود) ، وبما أن القياس عنده هو الاجتهاد كما هو معروف عنه، فيكون معنى كلامه: (لا يحل الاجتهاد والخبر موجود).
والنص في كلامهم مقصود به الخبر والدليل النقلي كتابا وسنة، وقد عبر الحافظ ابن حجر الشافعي عن مثل هذا بقوله: (المصير إلى الرأي إنما يكون عند فقد النص)، قال الجويني: (أما الشافعي فإنه يسمي الظواهر نصوصا في مجاري كلامه) .
فقد صرح في مواضع من الأم بأن النص عنده في مقابل المجمل، وفي مسودة آل تيمية: (النص على المحكم القول الذي يفيد بنفسه ولو ظاهرا، وهذا منقول عن الشافعي وإمامنا وأكثر الفقهاء، وقوم يطلقونه على القطعي دون ما فيه احتمال، وهذا هو الغالب على عرف المتكلمين!) .
وعليه فيمكن إعادة صياغة عبارة الشافعي بقولنا: (لا يحل الاجتهاد والنص موجود). وأما على طريقة متأخري الأصوليين فقد (يطلق اسم النص على الظاهر) كما قال ابن قدامة في الروضة، وزاد القرافي في شرح التنقيح أن للنص ثلاثة اصطلاحات، وذكر منها ما احتمل التأويل احتمالا مرجوحا كالظاهر، وجعله غالب إطلاق الفقهاء، بل هو اصطلاحهم كما في معجم أصول الفقه.
وبهذا الإطلاق استعمله الأصوليون في باب العلة ومسالكها، فقد جعلوا (النص) أحد مسالكها، ونبه الفخر الرازي إلى هذا الإطلاق الاصطلاحي بقوله: (نعني بالنص ما تكون دلالته على العلية ظاهرة سواء كانت قطعية أو محتملة) .
هذا استعمال المتقدمين، بل واستعمال المتأخرين خلاف زعم الكاتب الذي عكس الأمر، وجعله من تشويهات المتأخرين للقواعد الأصولية…! وهذه من الأخطاء التي يقع فيها أنصاف الباحثين.
وأما الوجه الثاني الذي زعم الكاتب أنه المقصود أصالة، فهو أيضا معنى صحيح، إذا عرف الاجتهاد فيها بتعريفه الإجرائي الحادث، بأنه بذل الوسع لاستنباط الحكم الشرعي من دليله التفصيلي، وعرف النص أيضا وفق تعريفات الأصوليين والبيانيين في مباحث الدلالة!!!
لقد كان قصد الكاتب -تبعا لغيره- تجاوز هذا الحاجز الذي منعهم ويمنعهم من الوصول إلى مواطن الفقه والاجتهاد المعتبر بلا أهلية، وتفجيرها بالتأويلات غير المنضبطة، ولكنهم اكتشفوا أن الحاجز أعلى مما ظنوا فعمدوا إلى الزعم أنه غير موجود…!
ومن غرائب الكاتب الدالة على سطحية معلوماته عن أصول الفقه -وإن كان قد سمح لنفسه بالخوض فيه- أنه زعم أن الشافعي شدد على (ضرورة استعمال آلية القياس كنمط وحيد لممارسة الاجتهاد، حتى يقصي آليات أخرى نص عليها الأئمة خاصة الاستحسان والمصالح المرسلة)، وهذا عبث، فلو كان عند الكاتب نوع إلمام بضروريات القياس الأصولي لانتبه إلى أن (المصالح المرسلة) مستمدة ومتفرعة من باب (القياس)، فالعنصر الأساس المكون للمصالح المرسلة هو (المناسبة) المصلحية، وهي أحد مسالك العلة في القياس الأصولي، ولذلك نسب محققو مذهب الشافعي إليه القول بالمصلحة المرسلة.
فقال الجويني: (المعروف من مذهب الشافعي التمسك بالمعنى، وإن لم يستند إلى أصل على شرط قربه من معاني الأصول الثابتة) .
وقال: (ومن يتتبع كلام الشافعي لم يره متعلقا بأصل، ولكنه ينوط الأحكام بالمعاني المرسلة) .
وقال الزنجاني: (ذهب الشافعي رضي الله عنه إلى التمسك بالمصالح المستندة إلى كلي الشرع، وإن لم تكن مستنده إلى الجزئيات الخاصة المعينة جائز) .
فلا ينقضي عجبي من هذا الخبط والخلط من كتّاب (مؤمنون بلا حدود)، عبثا يحاولون تسفيه تراثنا، يرجعون بخفي حنين، ورسالتي إليه وإلى أمثاله.. ليس هذا بعشك فادرجي!
وأما ما عرف عن الشافعي من إنكاره وإبطاله للاستحسان، وذمه الشديد له مثل قوله: (من استحسن فقد شَرَعَ) ، أو قوله (الاستحسان تلذذ)، فمحمول على ما كان عن رأي غير مستند إلى أصل، لا نقل صحيح ولا عقل صريح، بل كان من قبيل التشهي والهوى، وهو ظاهر قول الشافعي: (لا أعلم أحدًا من أهل العلم رخص لأحد من أهل العقول والآداب في أن يفتي ولا يحكم برأي نفسه إذا لم يكن عالمًا بالذي تدور عليه أمور القياس من الكتاب والسنة والإجماع والعقل) .
وقصده بالعقل هنا ما كان من قبيل الاستدلال باللوازم والمقاصد الشرعية المعتبرة، لا العقل المحض المبني على قواعد الفلسفة العلمانية، وقد قال الزركشي الشافعي: (الاستحسان العقلي لا مجال له في الشرع) .
وأما الاستحسان المشروع فغاية أمره أن صاحبه (لم يرجع إلى مجرد ذوقه وتشهيه، وإنما رجع إلى ما علم من قصد الشارع في الجملة في أمثال تلك الأشياء المفروضة) .
وقد ينازع الكاتب وغيره هنا بأنهم لا يخرجون عن هذا المعنى، ولكن تمثيلهم يكشف الخلل في تأصيلهم، فمهما مثلوا لم يجدوا من الأصول ما يوافقهم إلا غلبة الهوى والتلذذ العقلي والتشهي الفكري. ولنا على ذلك أدلة وشواهد.
وأما الاستحسان بمعنى تقديم الأحسن -على ما تقتضيه البنية اللغوية للمصطلح- فقد استعمله الفقهاء واتفقوا على اعتماده والقول بمقتضياته، وقد استحسن الشافعي في أربع مسائل نص عليها ابن القيم في البدائع ثم قال: (قال أصحابه: هو استحسان) .
فإن كان الكاتب يعرف هذا فقد دلس، وإن كان يقصد الاستحسان الذي أنكره الشافعي فإنما يقصد أن ينصب الحداثيون أنفسهم مشرعين لشرع غير شرع الله تعالى.
فلم يبق للاستحسان موضع تفرد عن الأصول، بل قال الشوكاني: (ذكر الاستحسان في بحث مستقل لا فائدة فيه أصلا، لأنه إن كان راجعا إلى الأدلة المتقدمة فهو تكرار، وإن كان خارجا عنها فليس من الشرع في شيء، بل هو من التقول على هذه الشريعة بما لم يكن فيها تارة وبما يضادها أخرى) .
فالذي يريده هؤلاء أن يخرجوا عن الشرع باستحسان أهوائهم، ثم يسمونه شرعا تدليسا تارة، وجهلا تارة أخرى.
فحسبنا الله ونعم الوكيل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *