يزعم العلمانيون والحداثيون أنهم دعاة الحرية الفردية وحُماتها. فعن أي حرية يدندنون؟ ما مفهومها، وما تجلياتها؟ هل من قواعد وضوابط مُطردة تضبط تنزيلها وممارستها، فلا تُفضي إلى ضرر ولا ضرار؟ أم أنها مجرد شعار عام هلامي عبارة عن لباس فضفاض يصلح أن يلتحف به كل صاحب سُعار شهواني، وتخبط فكري، وعوج سلوكي أخلاقي…؟!
إن الحرية الفردية الحقة الأصيلة هي التي توافق إنسانية الإنسان وتحفظ كرامته وتُثمر سعادته في المعاش والمعاد، وهي الحرية المنضبطة بضوابط تُستفاد وتُعرف من أصول الشرع الحكيم، وفيما يلي بعض هذه الضوابط:
أ- أن تكون الحرية الفردية خادمة لمقصد العبودية المطلقة لله تعالى
وذلك بأن تُمارس في حدود هذه العبودية، لا تتعداها. فهي حرية عبد مستخلف من سيده الذي خلقه ورزقه واستعمره في الأرض، وأنزل إليه كتبه وبعث إليه رسله ولم يتركه هملا. وأمره أن يدبر شؤون حياته وفق هدى تعاليمه وشرعه وتوجيهاته.
وبذلك تكون الحرية الفردية مكيفة وفق منظومة الأوامر والنواهي والأحكام الشرعية والآداب والتوجيهات الربانية.
فليس من الحرية مخالفةُ الأوامر وتضييع الفرائض وانتهاك الحرمات وتعدي الحدود، فقد قال المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم: «إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها وحد حدودا فلا تعتدوها وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها»1.
فإذا تضمنت «الحرية» استحلال ما حرم الله، وجحود ما شرعه، والتعالي والتطاول على أوامره ونواهيه، كما هي عند العلمانيين؛ فبئست الحرية هي. فإنما هي حرية من سفهوا أنفسهم. فهل من سفاهة أكثر مما يدعو إليه العلمانيون من مخالفة شرع الله واستحلال حرامه وإشاعة الفواحش والمنكرات والخبائث باسم الحرية؟! إنها والله سفاهة وحقارة ودناءة لا يرضى بها إلا السفهاء. قال رب العزة جل وعلا: «ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه» البقرة:129.
ب ــ أن تكون مشروطة بعدم إيذاء الغير
فإن الإسلام ينهى عن إيذاء الناس عامة والمسلمين والمؤمنين خاصة، ويحذر من مغبة ذلك، قال تعالى: “والذين يوذون المومنين والمومنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مَبينا” (الأحزاب:58) ولا يكتمل إسلام المرء إلا إذا أمن الناس أذاه. قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: “المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده”2.
وعليه؛ فإن إيذاء الناس بقول أو فعل، ليس من الحرية شرعا، وفاعله يجب أن يؤدب ويعاقب. ومثاله ما هو حاصل عبر وسائل الإعلام المختلفة، باسم حرية التعبير، حيث السب والسخرية والاستهزاء وانتهاك كرامة الآدميين وأعراضهم…
فهل من الحرية أيها العلماني أن أسبك وأسب أمك وأباك، وأنتهك كرامتك وأتطاول على عرضك؟!
هل تقر لأحد بهذه الحرية على نفسك؟!
فكيف تقر ذلك لمن يسب الناس ويؤذيهم، بل كيف تُقر ذلك لمن يسب النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، ويسخر منه وينتقصه؟!
وا عجبا كيف، نراك تشحذ قلمك وترفع عقيرتك وتملأ الدنيا ضجيجا وصخبا تدافع عن كل مأفون معتد متطاول على مقدسات الإسلام؟!…
ومن صور التعدي على أقدار الناس وحرماتهم باسم حرية التعبير أيضا؛ تلك الرسوم المسماة “رسوما كاريكاتورية”، حيث تُرسم صور أشخاص مشوهة توحي بمعان ودلالات مهينة. ومن ذلك أيضا توظيف الحاسوب للتلاعب بصور آدميين من شخصيات عامة سياسية أو دينية أو غيرها، حيث تُركب صورة إنسان لجسد حيوان، أو لجسد مكشوف العورة، أو نحو ذلك من الخبث الإعلامي…
فهل هذه حرية يقرها العقل السديد والفطرة السوية السليمة، أم أنها حريةُ من اختلت عقولُهم ومُسخت فطرهُم؟! أين هؤلاء من قوله تعالى «يا أيها الذين ءامنوا لا يسخر قومٌ مَن قوم عسى أن َيكونوا خيرا مَنهم ولا نساءٌ من نساء عسى أن يَكن خيرا مَنهن، ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالالقاب بيس الاسمُ الفسوقُ بعد الايمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون» (الحجرات:11).
لقد فُتنتم أيها العلمانيون وخدعتم أنفسكم باسم الحرية -حرية التعبير- فها أنتم تجمعون الأوزار إلى أوزاركم حتى إذا جاء اليوم الذي يُكشف فيه الغطاء وتُزال الغشاوة عن البصائر والأبصار كنتم فيمن قال الحق تبارك وتعالى فيهم: «وبدا لهم سيئاتُ ما عمِلُوا وحاق بهم مَا كانوا به يستهزِءُون» (الجاثية:32). نعوذ بالله من الخذلان وسوء المصير. فأفيقوا من غفلتكم وتوبوا إلى ربكم قبل فوات الأوان.
وللبحث بقية…