المقدمة الثانية عشرة
في أن من أنفع طرق العلم الموصلة إلى غاية التحقيق به أخذه عن أهله المحققين به على الكمال والتمام.
قال الناظم:
من أنفع الطرق لنيل العلـم تحصيله من ذي تقى وفهم
متصف في العلم بالرسوخ إذ قيـل لا بـد مـن الشيـوخ
فهـم مفـاتيـح لأهـل الطلب لما استقر العلم طي الكتب
وبعـلامــات عليـه يسـتـدل منها وفاق العلم منه للعمل
حتـى يكـون قـولـه لفعـلــه مطـابـقـا وهـديـه كـنـقـلــه
«من أنفع» وأفيد «الطرق» أي المناهج «لنيل العلم» وإدراكه «تحصيله» أي أخذه «من» عالم «ذي» صاحب «تقى» وخوف من رب العالمين «وفهم» لمضامين ذلك العلم.
«متصف في العلم بالرسوخ» يعني الثبات والتحقيق، فواجب على طالب العلم أن يأخذ كل فن عن أهله ذوي التحقيق والمهارة فيه، فلا استغناء له عن ذلك، «إذ قيل لا بد» في أخذ العلم «من الشيوخ» والمعلمين له.
«فهم مفاتيح» العلوم وخاصة ما انغلق منها «لأهل الطلب» للعلم وذلك «لما استقر العلم طي» يعني في طي -ونصب طي هنا قد يكون بنزع الخافض، وقد يكون على الظرفية- أي ما طوي منها يريد داخل -وعبر عنه بالطي لأنه لازم لما في الداخل- ويقال -أيضا- بطون الكتب، والمعنى واحد، «الكتب» وأودع فيها، وقد كان قبل يؤخذ من أفواه الرجال فقط.
فصل في ما يستدل به على العالم المحقق
«وبعلامات» وأمارات «عليه» أي العالم المتحقق بالعلم «يستدل» وبها يميز عن غيره ويعرف؛ «منها» أي من تلك العلامات «وفاق» أي موافقة ومطابقة «العلم» الصادر «منه للعمل» ويجوز أن يكون لفظ منه في قوله «منه للعمل» صفة العمل، في كون معنى كلامه بناء على ذلك: وفاق العلم للعمل منه أي للعمل الصادر منه.
«حتى يكون قوله لفعله مطابقا» موافقا، وذلك بأن يلزم نفسه بامتثال كل ما يقول إنه مطلوب فعله، ويكفها عن كل ما يقول إنه واجب الانكفاف عنه، «وهديه» أي حاله وسمته «كنقله» يعني كالعلم الذي ينقله ويعلمه، فإن حاله قد صيغ من علمه.
والعلامة الثانية:
وأخـذه لما مـن العلـم علـم عمن من الناس بذا الوسم وسم
حسبما قد كان حال السلف فـي أخذهـم خلفهـم عـن سلـف
والاقتـداء بالذي عنـه أخـذ فـي بـث مـا بـث ونبـذ مـا نبـذ
مستفرغا للجهد في التأدب بـأدب الشيـخ وحسـن الطـلــب
«وأخذه» وروايته «لما» أي للذي «من العلم علم» وأدرك «عمن من الناس» يعني العلماء والشيوخ «بذا الوسم» أي العلامة المذكورة وهي الجمع بين العلم والعمل به قد «وسم» أي علم ووصف؛ والوسم والسمة: العلامة.
«حسبما» يعني على وفق ما «قد كان» عليه «حال السلف» الصالح من الصحابة والتابعين وما مضى عليه أمرهم «في أخذهم خلفهم عن سلف» من تأخر منهم؛ وقوله خلفهم: بدل من الضمير في أخذهم، وهو بدل بعض من كل، وإبدال الظاهر الضمير جائز كما هو مبين في كتب النحو.
«و» العلامة الثالثة «الاقتداء» والتأسي «بـ» العالم «الذي عنه أخذ» العلم ومنهج التربية «في بث» أي في نشر «ما بث» شيخه من المعارف والعلوم والأدب «ونبذ» أي طرح «ما نبذ» شيخه، كما علمت من اقتداء الصحابة بالنبي صلى الله عليه وسلم، واقتداء التابعين بالصحابة، مع التزام ما أمر به سبحانه من اتباع كتابه وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، وأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وأن الاجتهاد واجب على من يقدر عليه، وهذا في اقتداء مسلم بمسلم، وأما الاقتداء به عليه الصلاة والسلام، فإنه كله طاعة.
«مستفرغا» أي باذلا أقصى ما يستطيع «للجهد» أي طاقته وقدرته -واللام هنا أي في قوله للجهد نائب عن الضمير- «في» كسب «التأدب بأدب» أي خلق «الشيخ» يعني شيخه -فـ«ال» نائبة عن الضمير بدلالة السياق- «و» في «حسن الطلب» وهو التحلي بآداب طالب العلم وأخلاقه وهي مبينة في الكتب الموضوعة في «آداب العالم والمتعلم».
فصل في ما يوصل إلى أخذ العلم عن أهله
والعلـم مطلب إليه يوصـل كـلا طـريـقـيـن فأمـا الأول
فإنـه الأخـذ لـه مـشـافـهــة من قبل الشيوخ بالمواجهـة
وذاك فيـه حـكـمـة بالـذات ترجع معنى للخصوصيات
يشهدها من زاول العلـوما ومـن تـولـى أهلهـا لـزومـا
«والعلم مَطْلب» يعني مطلوبا شرعا -كما تقدم بيان ذلك- والمطلب يستعمل بمعنى اسم المفعول، كما يقال هذا مَطْلَبي، أي ما أطلبه؛ ولو قال الناظم «والعلم مطلوب» لكان أولى؛ «إليه» يعني إلى أخذه وإدراكه يبلغ و«يوصل كلا طريقين» يعني يوصل إليه طريقان، وقوله: كلا طريقين فيه إضافة كلا إلى اسم منكر، والمعروف إضافتها إلى المعرف، «فأما» الطريق «الأول»:
«فإنه الأخذ له» أي للعلم «مشافهة» مباشرة بلا واسطة، «من قبل» أي جهة «الشيوخ» المأخوذ عنهم «بالمواجهة» أي المقابلة وجها لوجه.
«وذاك» يعني هذا الطريق «فيه حكمة» خاصة ثابتة فيه «بالذات» تؤخذ منه هي نفسها، وهي «ترجع معنى» وحكما ودلالة «للخصوصيات» التي جعلها الله -تعالى- بين المعلم والمتعلم.
«يشهدها» كل «من زاول» طلب وعالج «العلوم» وحاول تحصيلها، «ومن تولى» يعني صاحب «أهلها» أي أهل العلوم ولزمهم «لزوما» يحقق درك ذلك والعلم به.
يتبع..