لم يكن الهجوم الذي نفّذه حزب الله على الجيش الصهيوني، والذي أسماه “الوعد الصادق” جديدًا في سجل العمليات العسكرية بين الطرفين، ففي عام 2003م أسر حزب الله ثلاثة من الجنود الصهاينة، وفي عام 2005 نفّذ حزب الله هجومًا موسعًا على القوات الصهيونية في شمال فلسطين المحتلة، غير أن الجيش الصهيوني كان يكتفي برد محدود حيث يكون الرد الإسرائيلي بقصف محدود، لكن دون تخطي مستوى معين من العنف، ليتفاوض الاثنان بعدها عبر وسيط ثالث، فيتمّ تبادل الأسرى.
غير أن الأمور لم تسر كما كان متوقعًا، فماذا تغيّر هذه المرة؟ إن الإجابة على هذا السؤال تكمن في الخطاب الذي أدلى به “حسن نصر الله” الأمين العام لحزب الله عقب العملية، حيث أفاض نصر الله في الحديث عن قواعد جديدة للعبة، غير عابئ بأي تصعيد إسرائيلي مهما بلغت بشاعته.
قواعد جديدة للعبة
إن المفتاح لفهم المواجهة الصهيونية اللبنانية يكمن في فهم قواعد اللعبة بين الطرفين، فعندما انسحب الكيان الصهيوني من جنوب لبنان عام 2000م، وهو ما اعتبره البعض وقتها نصرًا لحزب الله، تبع هذا الانسحاب سلسلة من العمليات العسكرية لحزب الله لم ترد عليها إسرائيل بشكل موسّع، غير أن هذه المرة كان الرد مختلفًا، ومنذ اللحظات الأولى للهجوم والطرفان -حزب الله، و”إسرائيل”-، يؤكدان على أن قواعد اللعبة بينهما قد تغيرت، وقواعد اللعبة إذا حاولنا تعريفها، فهي تلك القواعد والقوانين، التي ترعى وتدير علاقة بين دولتين أو أكثر في ظرف ووضع معيّن، وإذا ما تغيرت هذه الظروف والأوضاع فإن الطرفين يجدان الرغبة في تغيير القواعد التي تحكم العلاقة بينهما.
في علوم السياسة، تعد القوة هي المفهوم الأساس في فهم العلاقات الدولية، وإلى جانب القوة تنضم المصلحة أو الهدف أو الغاية ليكوّنا معًا أسسًا نستطيع أن نفهم بها العلاقات بين الدول والأطراف المختلفة، فوفقًا للقوة والمصلحة تتحدد العلاقات بين الدول بدءًا من التعاون التام (التحالف) وانتهاءً بالتصارع التام (العداء)، وبين هذين النقطتين تتشكّل العلاقات بين الدول، ووفقًا للاختلاف الدائم في ميزان القوى فإن العلاقات بين الدول تختلف، فليس هناك صداقة دائمة أو عداوة دائمة.
في ظل هذه المفاهيم، نستطيع أن نفهم العلاقة بين الشيعة ـ بشكل عام ـ وبين أمريكا و”إسرائيل”، فليس من السهل أن نصفها بالعمالة، وليس من السذاجة أن نصفها بالمقاومة، غير أن المؤكد والذي لا يستطيع أحد إنكاره أن للشيعة أجندة خاصة ومجموعة من المصالح يسعون لتحقيقها ثبت أنها تخالف مصالح السُنة وتتفق كثيرًا مع مصالح أمريكا وإسرائيل، ثبت ذلك جليًا في أفغانستان والعراق، حيث التعاون الإيراني الأمريكي، وحيث نجد عدوًا مشتركًا للطرفين هم السُنة.
غير أنه إذا ما أراد أحد الطرفين أن يغيّر ميزان القوى لصالحه فإن الطرف الآخر يجد نفسه ملزمًا للتدخل لإعادة ميزان القوى إلى موضعه، وهذا ما يفسر الصدام بين إيران وأمريكا بسبب البرنامج النووي الإيراني، وهو ما قد يفسر كذلك المواجهة الجارية الآن بين حزب الله والكيان الصهيوني.
قواعد اللعبة القديمة
لم يتم الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان في عام 2000م إلا وكان الطرفان (حزب الله، وإسرائيل) قد توصلا إلى مجموعة من قواعد اللعبة التي تحكم حركة كل منهما في الجنوب اللبناني، تمثلت هذه القواعد، وفقًا للرؤية الإسرائيلية، في المبادئ الثلاثة التالية:
1- اعتراف بالخط الأزرق الذي قررته الأمم المتحدة على أساس القرار 425، الأمر الذي يمنع نشاط حزب الله على طوله، وفيما وراءه.
2- مزارع شبعا متروكة للنشاط العسكري لحزب الله بصفتها أرضًا محتلة.
3- مبدأ “العين بالعين” الذي يقضي بأن يرد حزب الله على إسرائيل بأعمال مشابهة لتلك التي تنفذها.
وفي ظل قواعد اللعبة هذه، كانت مزارع شبعا ساحة ما بين الطرفين لضبط إيقاع الآخر، وتعامل حزب الله وفق قواعد اللعبة وحصر نشاطه ضد إسرائيل في مزارع شبعا فقط، فلم نسمع طوال الأعوام الستة الماضية عن عمليات لحزب الله خارج هذه المنطقة، بل قرأنا ما قاله “صبحي الطفيلي” الأمين السابق لحزب الله من أن الحزب أحبط الكثير من الهجمات ضد “إسرائيل” في الجنوب اللبناني.
وبالتأكيد فإن قواعد اللعبة في تلك الفترة كانت نتيجة للظروف الدولية والإقليمية، إضافة إلى قوة كل طرف وما يملكه من أدوات للردع، غير أنه منذ الانسحاب الإسرائيلي من لبنان عام 2000م والطرفان يترقبان ظرفًا مناسبًا لتغيير قواعد اللعبة كل لصالحه، حاول حزب الله ذلك، وحاولت “إسرائيل”، وكانت هناك تخمينات للاستخبارات الإسرائيلية في عام 2002م، مثلاً بأن حزب الله يهيئ لـ”إسرائيل” كميناً إستراتيجياً سيؤدي إلى فتح الجبهة الشمالية.
ومع دخول واشنطن على الخط اللبناني والأحداث التي شهدتها بيروت منذ اغتيال رفيق الحريري برزت قوى جديدة داخل لبنان، وبدا الأمر وكأن حزب الله سوف يخسر كثيرًا من نجاحاته في الداخل اللبناني، حاول حزب الله الالتفاف على المشروع الأمريكي للبنان الجديد، غير أنه فشل في هذا الأمر، فكان لابد من عمل عسكري لإعادة ترتيب قواعد اللعبة، وكانت عملية “الوعد الصادق” التي كان من الواضح أن الجيش الإسرائيلي ينتظرها لإعادة ترتيب قواعد اللعبة لصالحه هو الآخر، فالرد الموسّع للجيش الإسرائيلي يؤكد أن خطط العمليات العسكرية على لبنان كانت معدة سلفًا، ولا غرابة في ذلك فبعد تولي “إيهود أولمرت” لرئاسة الوزراء الإسرائيلية كان أول الملفات التي عُرضت عليه الملف المتعلق بحزب الله وترسانة الصواريخ الموجودة لديه، والتي يمكن أن يصل مداها، حتى مدينة “هرتسيلسا” على مشارف “تل أبيب”، ووفقًا لهذه المعطيات، كان “أولمرت” في حاجة إلى مبرر للتحرك من أجل ترتيب الأوضاع في لبنان، وهو ما أشار إليه الرئيس الروسي “فلاديمير بوتن” بقوله: “أعتقد أن إسرائيل تسعى من خلال حملتها العسكرية إلى تحقيق أهداف أوسع من استعادة الجنديين المخطوفين”.
قواعد جديدة للعبة
بالتأكيد فإن الهدف من عملية “الوعد الصادق” لا يعود فقط لحزب الله، ولكنه يمتد لما أسماه الحزب بالدور الإقليمي الذي يلعبه، والمقصود به هنا تحقيق أهداف داعمي حزب الله ومؤسسيه، إيران وسوريا.
ومن الجلي هنا أن هدف إيران من “الوعد الصادق” ليس مجرد ورقة للضغط من أجل البرنامج النووي الإيراني، ولكن هذه العملية تصب في مشروع الهلال الشيعي الممتد من إيران إلى لبنان، وهو المشروع الذي يتصادم مع الرؤية الأمريكية الرافضة حتى الآن تضخيم دور إيران في المنطقة إلى هذه الدرجة، بالرغم من ترحيبها بالتعاون مع إيران والشيعة.
فحزب الله يسعى من وراء “الوعد الصادق” إلى التأكيد على المشروع الشيعي للمنطقة مقابل المشروع الأمريكي، وقد اتضح ذلك جليًا في تصريحات حسن نصر الله التي أفاضت في الحديث عن “حرب مفتوحة”، والتأكيد على أن الحرب لا تزال في بدايتها.
في المقابل فإن الرد الإسرائيلي الموسع حمل عدة دلالات تتمثل فيما يأتي:
1- التركيز على ضرب البنية التحتية للبنان محاولة للتأثير على شعبية حزب الله داخل لبنان، وهو أمر ليس بمستبعد حدوثه في ظل دولة طائفية مثل لبنان.
2- ضرب مطار بيروت والجسور والطرق الرئيسة محاولة لعزل لبنان عن بقية دول الجوار، وهو ما يحمل دلالة على عدم قبول فكرة الهلال الشيعي.
3- التهديد باستهداف حسن نصر الله وإجباره على بث رسائل متلفزة (مسجلة مسبقًا)، محاولة لإعادة حزب الله إلى حجمه الطبيعي.
ما بين مفاجآت حزب الله وتكسير عظامه:
في ظل تهديدات حزب الله بمفاجآت غير مسبوقة، وتصريحات الجيش الإسرائيلي بتكسير عظام حزب الله، يأتي السؤال إلى أي مدى ستصل ال%D