إن المتأمل في تصرفات الناس ومواقفهم والباحث عن أسبابها، يجد أن الحب أقواها وأكثرها حضورا، بغض النظر عن طبيعة هذا الحب وموقف الشرع منه.
وهذا الدافع أو السبب -أي الحب- نجده كذلك في تصرفات الناس المرتبطة بالدين ارتباطا واضحا، وعلى رأسها ما يكون سببه هو حب الرسول صلى الله عليه وسلم، فمثلا المسلمون -أو غالب المسلمين- يحتفلون بالمولد النبوي ويعتبرونه من الطاعات التي أساسها محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك لما خرج الناس قبل بضع سنوات في مسيرات ينددون بالرسوم المسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم، إنما دافعهم هو محبتهم له -كما يقولون، وإن شئت اسألهم-، فجعلوا هذه المواقف والتصرفات علامات وبراهين على المحبة.
ولكن دعونا نقف مع أنفسنا ونسألها، هل حقا هذا هو معنى المحبة؟
هل هذه التصرفات هي عنوان وعربون المحبة؟ أم أن المحبة تقتضي منا أشياء أخرى؟
فهذه الأسئلة وغيرها، إنما الإجابة عنها هي التي ستحدد لنا حقيقة المحبة، لنصل إلى معرفة حقيقة المحبة المقبولة شرعا، وأقصد محبة النبي صلى الله عليه وسلم.
أقول -وبالله استعين وهو الموفق سبحانه-، إن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم واجب شرعي، بل هي من مقتضيات أركان الإيمان التي قال فيها الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره»، وقد جاء هذا الكلام في سياق الجواب عن سؤال جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم عن ماهية الإيمان، وذلك كله في جلسة تعليمية كاشفة للحقائق.
ولذلك نفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عن غير المحب له، فقال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين».
ولقيمة محبة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه وجب علينا أن نعرف المقياس والميزان الذي نزن به هذه المحبة، وبتعبير آخر، ما هي ضوابط هذه المحبة؟
أو كيف نعرف أننا حقا نقوم بواجبات المحبة؛ إذ العلاقة بين المحب والمحبوب علاقة مربوطة بروابط وثيقة ومتينة، تتجلى في اتباع المحب للمحبوب ومناصرته له والدفاع عنه.
فالرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم أرسله الله رحمة للعالمين {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}، نعمة من الله ومنة، أرسله {بالحق بشيرا ونذيرا} من اتبعه هدي إلى الصراط المستقيم والطريق السوي والمنهج القويم، ولذلك ألزمنا الله باتباعه رحمة بنا، قال سبحانه: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا، فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين}، وقال سبحانه: {قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين}، وفي هذا المعنى آيات كثيرة.
وبالتالي فمن براهين محبتنا للنبي صلى الله عليه وسلم، أن نمتثل لهذا المقصد العظيم من مقاصد بعثة الرسل عليهم السلام وعلى رأسهم نبينا الكريم، وهو اتباعه وسلوك طريقه والتزام طريقته، قال تعالى: {وما نرسل من رسول إلا ليطاع بإذن الله}.
وكذلك فإن الله عز وجل ابتلانا -امتحننا- لأجل إثبات محبتنا له سبحانه، بأن نتبع نبيه عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم}، وقد قدمنا أن من براهين وعلامات المحبة اتباع النبي عليه الصلاة والسلام، فالمتبع محب، وبالتالي فلن تصل إلى محبة حقيقية لله إلا إذا كانت محبتك للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم حقيقية.
فحقيقة المحبة هي الإتباع، أي اتباع الهدي النبوي، فتأتي بالأعمال الصالحة وفق السنة النبوية، ولذلك قال حبيبنا صلى الله عليه وسلم، وهو يربط المحبة بالإتباع من خلال التأكيد على أن مصير المحب والمحبوب واحد: «المرء مع من أحب».
ويوضح هذا المعنى جليا ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما، عندما سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم عن وقت الساعة فقال له: «ما أعددت لها؟» قال: يا رسول الله ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، قال: «أنت مع من أحببت»، وعند الإمام مسلم: قال أنس بن مالك رضي الله عنه: (فما فرحنا بعد الإسلام فرحا أشد من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنت مع من أحببت»، فأنا أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر، فأرجوا أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم).
وليتأمل كل واحد منا ربط أنس رضي الله عنه بين رجائه وتقصيره في العمل كما عملوا، مما يوضح أنه فهم أن حقيقة المحبة هي الاتباع.
وفي الختام أقول، إن المحبة تقتضي الاتباع، فالمحب للرسول متبع لهديه، وذلك بإحياء سنته والمحافظة عليها واجتناب الابتداع في دين الله، وتذكروا قول الرسول المحبوب صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد».
ولذلك فليعرض كل محب للرسول صلى الله عليه وسلم أعماله على سنته، فإن وافقتها، فهو متبع، إذن هو محب، وإن خالفتها، فهو غير متبع، إذن ليس محبا على الحقيقة، وتذكروا قول الله عز وجل {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة}.