باتت أسهل الطرق اليوم نحو الشهرة وكسب المال والبروز في مجال الفكر والبحث العلمي والأكاديمي هو إثارة قضايا الجنس والدين في المجتمع المغربي، وإنجاز دراسات في هذا المجال، دراسات غالبا ما تموِّلها جهات أجنية، كـمؤسسة “فريديريك هربرت” وغيرها، وهو ما يدفعنا إلى التساؤل عن السبب الحقيق لتمويل هذه المؤسسات لمثل هذه الدراسات؟ وعن الهدف الكامن وراء الاحتفاء بها وتخصيص جوائز لمبدعيها؟
إذا علمنا أنه يوجد في المغرب اليوم أكثر من 100 مركز ثقافي أجنبي تتصدرها المراكز الفرنسية وتليها الإسبانية ثم الإنجليزية والأميركية والألمانية فالإيطالية، كل منها يدعي أنه يسعى إلى تعريف المجتمع المغربي بثقافته وفكره، وإيجاد أرضية مشتركة للاحتكاك الثقافي، إذا علمنا ذلك أيقنا أن المعركة الثقافية في بلدنا حامية الوطيس، تحتاج إلى علم وخبرة ودراسة دقيقة للتاريخ ومخططات محتل الأمس، وللمرجعية الفكرية التي تحكم مثل هذه المراكز.
فدور معظم هذه المراكز معلوم منذ نشأتها، وإن حاول البعض تغليف ذلك بدعاوى لا حقيقة لها إلا عناوينها، فهي ليست إلا كالمجهر الذي يكشف كل ما تحته من أحوال المجتمع وظروفه الاجتماعية والاقتصادية السياسية، وذلك رغبة في قياس درجة نفاذ القيم العلمانية وسيطرتها على بنية القيم الاجتماعية والدينية لدى المغاربة، ومعرفة مدى تمكن الإسلام الذي يعوق سيطرتهم على مصير الأمة من نفوس معتنقيه، وإدراك ما تبقى من الوعي الديني لدى المغاربة ومدى قابليتهم ورغبتهم في الرجوع إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، إلى غير ذلك من المعطيات والاستنتاجات والمعلومات التي تفيدهم في حسن تصور حقيقة مجتمعنا، حتى يحسنوا وضع المخططات والاستراتيجيات الكفيلة باستمرار هيمنتهم السياسية والاقتصادية والفكرية.. من أجل استنزاف مقدرات البلاد، وتكريس التخلف والتبعية والخضوع الدائم للغرب.
وقد نظم مؤخرا المركز الثقافي الفرنسي الدورة السادسة عشر لنيل جائزة الأطلس الكبير، وهي جائزة عرفت انطلاقتها منذ سنة 1991م وترأس لجنة تحكيمها هذه السنة الفيلسوف اليساري الفرنسي رئيس المعهد الأوروبي للعلوم الدينية “ريجيس ديبراي”، وهي جائزة تكشف مدى سعي فرنسا الحثيث لدعم الإبداع باللغة الفرنسية بالمغرب، وتشجيع ترجمة الإصدارات والأبحاث الفرنسية إلى العربية.
وقد كانت جل الأبحاث والدراسات التي قدمت هذه السنة تتمحور حول مواضيع يسيل لها لعاب السفارة الفرنسية تتمحور حول الجنس والدين والسلطة، وهي المواضيع التي حاز أصحابها شرف القبول والرضا من اللجنة الساهرة على تقييم الأبحاث والدراسات والمقالات، وقد تم منح جائزة الأطلس الكبير في صنف “الدراسة” لمؤلف “سنوات لام ألف.. ثلاثون سنة من الصحافة في المغرب” للكاتبة الفرنسية زكية داوود التي حكت قصة تجربتها الإعلامية طيلة ثلاثين سنة، وللمؤلَّف الجماعي “الإسلام اليومي” لمحمد العيادي وحسن رشيق ومحمد الطوزي (منشورات مقدمات 2007)، والذي قدم “قراءة للتدين اليومي في المغرب بالإحالة إلى فرضيات العلمنة”؛ محاولا إبراز أن التدين “لا يشغل إلا حيزا محدودا في الحياة اليومية للمغاربة، ولا يمتد إلا في نطاق وزمن محدودين، وإن كان يبدو أنه يزداد حماسة وكثافة، ولاسيما في تعبيراته السياسية، في تلازم مع رفع مستويات الحياة والتمدرس”، وقد وصف رئيس لجنة التحكيم “ريجيس ديبراين” المؤلف بالمهم، مؤكدا أنه يعد بحثا ابتكاريا يمكنه أن يشكل مصدر اشتغال لتدعيم أي تحليل في هذا المجال.
أما جائزة “الترجمة” فقد كانت من نصيب محمد الصغير جنجار، عن ترجمته من الفرنسية إلى العربية لمؤلف “السياسي والديني في المجال الإسلامي” للتونسي محمد الشريف الفرجاني (مقدمات، فيارد 2005/2008)، والذي تطرق فيه حسب ما نصت عليه الوثيقة الخاصة بالجائزة “للرهانات الاجتماعية والسياسية للنقاش الدائر حاليا حول قضايا من قبيل العلمانية، ووضع المرأة، وحرية الفكر، وتطور المؤسسات، وغيرها.”
وهي دراسات وأبحاث يحكمها غالبا منهج علم الاجتماع الغربي المادي، وقد بين “جان فرانسوا تيبو” سفير فرنسا بالمغرب في كلمة له خلال حفل تسليم الجوائز أن هذه الجائزة “تمثل لحظة تتويج سنوية لعمل تقوده فرنسا التي تسعى يوميا وعلى الميدان إلى النهوض بإصدار النصوص الجيدة، وتشجيع برامج الترجمة، وجعل الكتب في متناول الجميع”، هذه الكتب والدراسات والأبحاث التي تسعى السفارة الفرنسية ومنذ أربع سنوات -كما أفاد ذلك جان فرانسوا تيبو نفسه- وبالتعاون الوثيق مع وزارة الثقافة! في تطوير مكتبات الوسائط المتعددة العمومية وذلك بفتح 70 نقطة قراءة عمومية من ضمنها عشر مكتبات للوسائط المتعددة بالمملكة، وذلك حتى إذا أراد أي باحث مغربي أن يعد بحثا في أي من المواضيع المذكورة أعلاه سيجده يسيرا مُذللا، لكن بقراءة علمانية غربية مادية تتنافى ومقومات الهوية والخصوصية، تخدم أهداف ومشاريع فرنسا وغيرها من الدول الغربية.
في سنة 1902م قال “يسجو نزاك” في محاضرة ألقاها في مدينة “روان”: “لكي ينهار المغرب ينبغي أن نعمل فيه الفأس، وهذا القرار العنيف ليس فيه ما يخيفنا”، وبالفعل ففرنسا من قبل فرض نظام الحماية البائد وإلى يومنا هذا وهي تعمل الفأس لتطويع هذا البلد والسيطرة على ثرواته ومقدراته، لذا فعلى الباحث والأكاديمي والصحفي وكل صاحب قلم حر نزيه أن يجعل مداد قلمه في خدمة انتمائه لدينه وهويته ووطنه، وأن يكون على وعي تام بما يبيتُه محتل الأمس لهذه الأمة من مكر ومخططات مكشوفة ترمي إلى القذف بالشباب في أتون الشبهات والشهوات، وتزييف الحقائق وتغييب التاريخ، ومعالجة كل الظواهر الاجتماعية والسلوكات المنحرفة بعيدا عن الدين وبمنظور علماني مقيت، وإلا انحرف قلمه وتحول إلى قلم مأجور وأداة طيعة لخدمة فكر الغربيين المتربصين، يكتب بلغة الضاد ويحلل بفكر فرنسي أو إنجليزي واقعا مغربيا أخضعه للدراسة بنظارتين غربيتين، ليأتي في النهاية بعمل يستحق جائزة الغرب لكونه يخدم مشروعه التوسعي الاستغلالي.