دور القرآن والشيخ المغراوي والوهابية.. عودا على بدء! حماد القباج

عادت إلى الواجهة؛ كتابات تهاجم دور القرآن وأشهر علمائها: الشيخ المغراوي ..
وذلك في سياق الانفراج الذي يعرفه هذا الملف، واتجاه الدولة نحو الاعتراف بدورها الإيجابي في تأطير المجال الديني. (من آخرها: الملف الذي أعدته مجلة (actuel) في عددها رقم (143) بتاريخ: 26 ماي 2012 تحت عنوان: (Mohamed Maghrawi cet homme et dangereux.
وفتح المهاجمون قاموسهم القديم ليغترفوا منه ألفاظهم البالية التي تصف دور القرآن؛ بأنها مدارس خطيرة تقوم على “البترودولار” وتستورد “المذهب الوهابي” و”تنشر العنف” وتهدد “الإسلام المغربي” السمح والمعتدل..
ولا أراني بحاجة إلى إعادة التذكير بما بيناه مرارا من الآثار الإيجابية لدور القرآن في مجال الدعوة ونشر العلم الشرعي والمشاركة في التنمية وتحقيق الأمن الوطني؛ وإنما أذكر بحقائق تبين زيف التهم المشار إليها:
حقيقة المذهب الوهابي
الوهابية لقب أطلقه التيار الصوفي والحركة الاستشراقية على الدولة السعودية الأولى، وعلى الحركة الإصلاحية التي قادها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله؛ تنفيرا للمسلمين من هذه الحركة وإيهاما بأنها مذهب خامس أحدثه الشيخ محمد.
وقد راجت هذه الإشاعة في الأوساط الفكرية والسياسية، لكن المنصفين العارفين بخبايا الأمور يدركون حقيقة الأمر؛ ويعلمون أن الوهابية ليست مذهبا محدثا بقدر ما أنها حركة إصلاحية سلفية تهدف إلى الرجوع بالدين إلى أصوله الصحيحة وتطبيقاته المشروعة، كما هو صريح قول المستشرق الإسباني (أرمانو): “إن كل ما ألصق بالوهابية من سفاسف وأكاذيب لا صحة له على الإطلاق”.
ويكفينا في الموضوع، شهادة أديب المغرب؛ العلامة عبد الله كنون الذي قال في كتابه النبوغ المغربي (ص. 125): “يقال اليوم في كل من كان سلفي العقيدة: إنه وهابي تنكيتا عليه وتنفيرا من مذهبه”.
وكنت قد كتبت مقالة أبرزت فيها استكشاف أحد أبرز علماء المالكية وفقهائهم المتأخرين لما يسمى بالمذهب الوهابي؛ وهو العلامة محمد بن عزوز التونسي المالكي (ت 1334هـ).
ترجم له الكتاني في فهرس الفهارس رقم (490)، واصفا له بقوله: “هذا الرجل كان مسند أفريقية ونادرتها، لم نر ولم نسمع فيها بأكثر اعتناء منه بالرواية والإسناد والإتقان والمعرفة ومزيد تبحر في بقية العلوم والاطلاع على الخبايا والغرائب من الفنون والكتب والرحلة الواسعة وكثرة الشيوخ، إلى طيب منبت وكريم أرومة”اهـ.
كان الشيخ محمد بن عزوز مطلعا على ما يتردد من كلام حول (الوهابية)، وأنهم طائفة مبتدعة في الدين تكفر المسلمين وتعتدي على تراثهم.
إلا أنه لم يرض أن يبقى في تصوره وحكمه على هذا التوجه؛ أسير الأخبار والحكايات، فهذا شأن قليل المعرفة أو صاحب المصلحة أو المتعصب الذي لا يرضى أن يقال له أخطأت.
ذلك كله لم يحكم موقف الشيخ ابن عزوز، بل سلك مسلك العلماء المنصفين؛ فبحث وقرأ واستشهد الثقات؛ ومن ذلك أنه أرسل إلى صديق له في المدينة النبوية رسالة يستجلي منه فيها الأمر، ثم أرسل الرسالة نفسها إلى “البيطار” علامة بلاد الشام يريد منه جوابا شافيا .
ومما جاء فيها: “أخبرني عن “الوهابية”؛ فقد تناقضت عندي المسموعات:
بعض الناس يقولون: الوهابية يحقرون المقام النبوي، ولا يرون فرقا بينه وبين بقعة خالية في الأرض، ويقولون لمن شرب الدخان: أشركت بالله، ويضللون من أثنى على رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنارة، ويكفرون من زار قبرا ودعا الله عنده ويستحلون دمه.
وهؤلاء القادحين فيهم يقولون على سبيل القدح: “هم تابعون ابن تيمية”، فهنا جاء التناقض؛ فإن ابن تيمية إمام في السنة كبير، وطود عظيم من أطواد العرفان، حافظ للسنة النبوية، ومذهب السلف، يذب عن الدين، ويقمع المارقين، كالمعتزلة والقدرية، والرافضة والجهمية، ما فارق سبيل الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة قيد أنملة، ..فإن كان الوهابية حقيقة على منهج ابن تيمية وابن القيم ونحوهما من فقهاء الحنابلة السنية فهم أسعد الناس بالشريعة؛ لأن ابن تيمية وأصحابه لم يسيء القول فيهم إلا القاصرون عن درجاتهم، علما وتحقيقا، والراسخون في العلم شهدوا بعلو مكانتهم. وإن كان الوهابية متصفين بالصفات الذميمة المشار إليها أولا، فأول خصم لهم ابن تيمية ونظراؤه من أئمة الحنابلة، فليسوا بتابعيهم.
وبعض الناس يقولون: الوهابية هم القائمون بالسنة، المتجنبون للبدع، المتبعون للحديث الشريف، وعلى مذهب أحمد ابن حنبل وطريقة السلف في الاعتقاد…”.
واعلموا أن من البلايا المتسلطة على الدين وإيمان المسلمين أنه صار الذي يصدع بالحديث النبوي الصحيح مقدما له على عصارة المتفقهين يقال له: أنت وهابي!
وأحكي لكم لطيفة: كنت سألت بعض متفقهة مكة الحنفية عن رجل أعرفه من أكبر الفضلاء، قلت له: كيف حال فلان؟ فقال لي: ذلك وهابي. فقلت له: كيف وهابي؟ فقال: يتبع البخاري!”اهـ .
قال ابن عزوز:
“وقد كنت طالعت الرسائل المؤلفة من محمد بن عبد الوهاب وأصحابه، ورأيت ما كتبه الجبرتي في “تاريخه” من عقائدهم وسيرتهم؛ فما هي إلا طريق السنة ليس فيها ما ينكر، ورأيت رسائل القادحين فيهم ينسبون لهم الدواهي والعظائم ..”اهـ.
“فلما ارتحلت إلى المشرق سنة 1316، واطلعت على كتب أهل هذا الشأن باستغراق الوقت؛ لا واشي ولا رقيب، وأمعنت النظر بدون تعصب، فتح الله على القلب بقبول الحقيقة، وعرفت سوء الغشاوة التي كانت على بصري، وتدرجت في هذا الأمر حتى صارت كتب الشوكاني وصديق خان وشروح بلوغ المرام وما والاها أراها من أعز ما يطالع، أما كتب الشيخين ابن تيمية وابن القيم فمن لم يشبع ولم يرو بها فهو لا يعرف العلم.
.. ومنذ عرفت الحقائق، استرذلت الحكم بلا دليل”اهـ
إننا حين نتكلم عن دور القرآن وتوجهها السلفي لا نتحدث عن مذهب أحدثه أحمد بن حنبل أو ابن تيمية أو ابن عبد الوهاب أو غيرهم؛ ولكننا نتكلم عن منهج تديّن به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وجدده في المغرب أعلام كبار من رجال العلم والسياسة والأدب والفكر؛ ليس أولهم السلطان العلوي مولاي سليمان بن محمد، وليس آخرهم العلامة المناضل شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي وتلميذه الدكتور العلامة المتفنن تقي الدين الهلالي، وتلميذ هذا الأخير: الدكتور محمد المغراوي..
دور القرآن الكريم لا تدرس الوهابية:
وعلى فرض وجود مذهب اسمه الوهابية؛ فإن دور القرآن لا تدرس هذا المذهب، بل تدرس العلوم الشرعية التي تقرب معاني القرآن والسنة، منفتحة على كل الإنتاجات العلمية التي أفرزها علماء الأمة الإسلامية.
وفي الوقت الذي تُولي مزيد عناية واهتمام بتراثنا المالكي الغني؛ فإنها تشجع أيضا على الانفتاح على علوم باقي الأئمة والمذاهب:
ففي التفسير مثلا تولي عناية خاصة لتفسير العلامة القرطبي، لكنها لا تقصي -مثلا- تفسير ابن جرير وابن كثير أو نحوهما من التفاسير النافعة.
وفي الحديث والفقه؛ تدرس موطأ الإمام مالك، مع الاهتمام بباقي مصادر السنة وعلى رأسها الصحيحان.
وفي العقيدة تدرس مقدمة الرسالة لمالك الصغير؛ الإمام ابن أبي زيد القيرواني، دون أن تترك الاستفادة من العقيدة الطحاوية للإمام الحنفي أبي جعفر الطحاوي، وكتاب التوحيد للإمام الحنبلي محمد بن عبد الوهاب.
فهذا التنوع ظاهرة إيجابية، ولم يزل هو ديدن العلماء، وليس من المفيد أن ننغلق وننحصر في ما يسميه البعض الخصوصية المغربية، والتي يقصد بها رفض كل ما جاء من المشرق .
دور القرآن تنبذ العنف
من أغرب افتراءات المهاجمين؛ إيهامهم بأن دور القرآن تتبنى أسلوب العنف، والأشد غرابة هو الدليل الذي قدمه البعض برهانا على تلك التهمة؛ والمتمثل في الحرب التي جرت قديما بين آل سعود (الوهابيين) والدولة العثمانية!
وبعيدا عن هذا التلاعب العجيب بالتاريخ، والذي يكشف تمحل المهاجمين، وحرصهم على إعطاء صورة سلبية عن دور القرآن بأي وجه كان؛ نذكر القراء بأن دور القرآن تجاوز عمرها الأربعين سنة، قدمت خلالها للوطن خدمات جليلة؛ منها: المشاركة في حفظ الأمن والسلم والاستقرار، ومقاومة أسباب الفتن والاضطرابات، والواقع يصدق ذلك أو يكذبه..
وسيجد القارئ المنصف المرتكزات الشرعية لهذا الموقف في كتابَيّ: “السلفية في المغرب ودورها في محاربة الإرهاب”، و”الأدلة القطعية على تحريم التفجيرات التخريبية التي تمارس باسم الجهاد وإنكار المخالفات الشرعية”.
تكميل:
ما أشرنا إليه فيما يتعلق بالبرامج العلمية لدور القرآن وآثارها الدعوية والتربوية وخدماتها التنموية، لا تعني أن يتفق علماؤها ودعاتها مع إخوانهم العلماء والدعاة في مؤسسات أخرى، في كل المسائل الخلافية ؛ كمسائل التصوف والعقائد الكلامية والأحكام الفقهية ونحو ذلك.
وليس السبيل في التعامل مع ذلك الخلاف؛ كتابة المقالات التحريضية والنيل من العلماء العاملين ورميهم بالتشدد..
ولا الشطط في استعمال السلطة ومصادرة الحقوق القانونية والدستورية؛ كما فعلت وزارة الداخلية حين أغلقت مقرات دور القرآن سنة 2008..
إنما السبيل الشرعي؛ هو الحوار العلمي المؤدب، والنقاش الوطني المسؤول، في ضوء قول الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59].

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *