ثالثا: نقد موقف ابن رشد من خلق العالم وأزليته:
وإتماما لهذا الموضوع أُشير هنا إلى آراء بعض الباحثين المعاصرين في موقفهم من قول ابن رشد بأزلية العالم و ما يتصل به، أذكر منهم أربعة، أولهم الباحث محمد عمارة، إنه يرى أن أخذ ابن رشد بالتصوّر المادي للطبيعة في قوله بأزليتها وتأويله للشرع، فيه تمثلت عبقريته، وبرزت القيمة الكبرى لإضافته الإبداعية التي أوصلته إلى إيجاد أرضية مشتركة بين المادية والمثالية.
وقوله هذا لا يصح، وفيه مبالغات لا مبرر لها، بدليل الشواهد الآتية: أولها إنه سبق أن أقمنا الدليل الشرعي والعقلي والعلمي على بطلان موقف ابن رشد في قوله بأزلية العالم وما يتصل به، وتبين أيضا أنه -أي ابن رشد- مارس التأويل التحريفي في تعامله مع النصوص الشرعية، مارسه تأويلا وإغفالا بطريقة انتقائية موجهة للانتصار لمذهبيته الأرسطية القائلة بأزلية العالم، فهل عمل كهذا يُسمى عبقرية وإبداعا؟!
والشاهد الثاني مفاده أن القول بأزلية العالم والإقرار بالخالق ليس جديدا، ولا أبدعه ابن رشد، الذي هو على طريقة سلفه أرسطو وأصحابه المشائين، فأية إضافة إبداعية أضافها بعبقريته المزعزمة؟! والشاهد الثالث مفاده أن ابن رشد أخطأ في محاولته التأويلية التحريفية في تعامله مع النصوص الشرعية و انتصاره للأرسطية، فخالف الشرع والعقل والعلم في قوله بأزلية العالم، ومن هذا حاله لا يصح وصف ما قام به بأنه عمل عبقري وإبداعي، وإضافة لها قيمة كبرى.
والشاهد الأخير -وهو الرابع-، مفاده أن طريقة ابن رشد في ربط العلاقة بين القول بأزلية الطبيعة والإقرار بالخالق القائمة على الحركة التي يُحركها عشقها لمعشوقها، والذي هو علة غائية للعالم، هي طريقة ضعيفة جدا جدا، ولا تستحق أن تُسمى عبقرية ولا إبداعا، ولا تصلح أن تكون أرضية مشتركة بين المادية والمثالية، لأن طريقته خالف بها الشرع والعلم، ولا تقوم على أساس عقلي صحيح، وإنما قامت على مقدمات ظنية وهمية، ولم تقم على أساس اللزوم والضرورة المنطقية بين الله والعالم، لأن القول بأزلية العالم وأبديته وطبيعته الإلهية المتمثلة في العقول المفارقة، تجعل العلاقة بينه وبين الله تعالى ليست ضرورية، ويمكن الاستغناء عنها، لأنه بما أن العالم أزلي وعقوله خالدة أزلية ذات طبيعة إلهية، ولها تصرّف في العالم، فيمكننا أن نقول: إن ذلك العالم كان في مقدوره أن يستغني عن ذلك المعشوق الذي حركه بعشقه له، لأنه يتصف بصفات إلهية تجعله ليس في حاجة إلى تلك الحركة المزعومة، فالعلاقة بينهما علاقة ظنية وهمية لا علاقة ضرورة ولزوم.
وهذا خلاف ما إذا قلنا بما يقوله الشرع والعقل الصريح والعلم الصحيح، من أن العالم مخلوق بعد أن لم يكن، حيث تصبح العلاقة بين الله والعالم علاقة ضرورة وتلازم، لأنه لا مخلوق دون خالق، فبما أن المخلوق موجود فالخالق موجود بالضرورة، لأنه لا بد للمخلوق من خالق أزلي خلقه، هذا هو منطق الشرع والعقل والعلم، وهذه هي العبقرية والإبداع، اللذان يقومان على إلهيات الشرع التي تجمع بين المادية والمثالية بالطريقة الصحيحة، وأما تحريفات وتلفيقات ابن رشد وأصحابه، فهي ليست من العبقرية ولا من الإبداع في شيء.
وأما ثاني هؤلاء الباحثين فهي زينب الخضيري، إنها ترى أن قول ابن رشد بالخلق المستمر -أي دوام الفاعلية- مكنه تماما من حل (مشكلة قدم أو حدوث العالم، فالخلق مستمر منذ الأزل وإلى الأبد، فالعالم قديم زمانا وإن كانت له علة خالقة هو الله، الذي لا يكف عن الخلق، فالعالم قديم دائم)، وهو قد حل أيضا مشكلة علاقة الهيولى -المادة الأولى- بالمحرك الأول -أي الله-، فمع قوله بقدمها موافقا لأرسطو، فإنه جعلها في نفس الوقت مخلوقة، وبهذا يكون قد حافظ على سلامة العقيدة، وقالت أيضا: (إن العقل وحده لا يستطيع القطع أبدا بأحد الرأيين: هل العالم قديم أم حادث؟…لأن القولين يتطلبان منا في الحالين الخروج من الزمان، وبالتالي تحقيق المستحيل)، فالاستدلال العقلي لا يستطيع إثبات أحد الرأيين.
وردا عليها أقول: أولا إن ما ذكرته الباحثة في قولها الأول، هو مرتبط بدوام الفاعلية، المعروف بحوادث لا أول لها، وقد سبق أن ناقشنا هذه المسألة، وتبين خطأ ابن رشد فيها، مما يعني أنه لم يقدم حلا، وإنما طرح مشكلة عجز عن حلها، وخاض -من خلالها- في أمور غيبية لا يمكنه البت النهائي فيها إلا عن طريق الوحي، وهذا لم يفعله ابن رشد -مع وجود الوحي بين يديه-، فلو عاد إليه واتخذه منطلقا له في هذه المسألة، لوجده ينص على خلاف ما ذهب إليه.