نحن حضارة نص
تشكلت بنزول أول آيات الذكر الحكيم |
لقد أتى على الأمة العربية حين من الدهر لم تكن شيئا مذكورا، كان للعرب معارف محدودة مرتبطة بالحاجات التي تيسر لهم حياتهم اليومية، فكانت لديهم بعض المعارف بالفلك التي يحتاجها المسافر في الصحاري كي لا يظل الطريق، كما كان لهم إلمام بجغرافية الجزيرة العربية، واهتموا أيضا بتاريخ القبائل العربية وأنسابها وزعمائها وشيوخها.
كما مارسوا التداوي ببعض الطرق البدائية في الطب، وكانوا يعرفون قليلا عن الموت وبدء الخليقة نظرا لاحتكاكهم بأهل الكتاب، “إن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم، وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية، فإذا تشوفوا إلى معرفة شيء مما تتشوف إليه النفوس البشرية، في أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود، فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ويستفيدونه منهم، وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من النصارى، وأهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم، ولا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب ومعظمهم من حمير، الذين أخذوا بدين اليهودية، فلما أسلموا بقوا على ما كان عندهم مما لا تفلق بالأحكام الشرعية التي يحتاطون لها مثل أخبار بدء الخليقة وما يرجع إلى الملاحم”[1].
وفي هذا بيان للحالة العلمية والاجتماعية للعرب، فكل قواهم المعرفية كانت خامدة معطلة، وبالأحرى غير موظفة توظيفا صحيحا، إلى أن نزل القرآن وبث فيها الروح وأيقظها من سباتها، ووجهها الوجهة الحسنة، وأطلق لها عنان البحث والنظر والتأمل، ففهمت كتاب ربها وتفاعلت مع واقعها، فكان ذاك العطاء الشامخ وتلك الحضارة الإنسانية التي استوعبت الناس كل الناس على اختلاف معتقداتهم وأعراقهم ولكن ما إن نزلت آيات القرآن الكريم، وتشربتها عقولهم وقلوبهم حتى أصبح القوم غير القوم والرجال غير الرجال، فبدؤوا من يومها يستشعرون مفهوم الأمة ومفهوم الجماعة، لأن الدين الجديد وحّد كلمتهم وشكّل كينونتهم وهويتهم، وأخرجهم من شعاب مكة يحملون رسالة النور والهدى إلى العالمين.
إن ما حققته الأمة عبر تاريخها إنما هو نتاج لفعل القرآن الكريم ودفعته الحضارية الأولى، وذلك بحسن التعامل معه والتأسي بتعاليمه، والاستمداد من معارفه وتوجيهاته، فهو بحق أعظم ثورة غيّرت مجرى حياة العرب، فتأثر تاريخهم وتاريخ أمم الأرض بنوره الرباني، وإلى هذا أيضا أشار مالك بن نبي بقوله:
“ومن المعلوم أن جزيرة العرب مثلا، لم يكن بها قبل نزول القرآن إلا شعب بدوي يعيش في صحراء مجدبة، يذهب وقته هباء لا ينتفع به، لذلك فقد كانت العوامل الثلاث: الإنسان والتراب والوقت راكدة خامدة وبعبارة أصح مكدسة لا تؤدي دورا في التاريخ، حتى إذا ما تجلت الروح بغار حراء، كما تجلت من قبل في الوادي المقدس أو بمياه الأردن، نشأت من بين هذه العناصر الثلاثة المكدسة حضارة جديدة، فكأنما ولدتها كلمة اقرأ التي أدهشت النبي الأمي، وأثارت معه وعليه العالم، فمن تلك اللحظة وثبت القبائل العربية على مسرح الأحداث حيث ظلت قرونا طوالا تحمل للعالم حضارة جديدة وتقوده إلى التمدن والرقي”[2].
لقد نالت الأمة بفضل القرآن الكريم، شرف خير أمة أخرجت للناس، تحمل مشعل العلم والعدل والحرية للناس كافة، ولقد عبر عن رسالتها بإيجاز أحد أبنائها الذين سرت في عروقهم قطرات الإيمان وفعل القرآن “لقد ابتعتنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام”، فقادها القرآن الكريم إلى بناء حضارة عالمية، يشهد بذلك كل قارئ منصف.
ولا زالت نورها ومعالمها ظاهرة سواء على المستوى العلمي أو العمراني أو الأخلاقي، فأعلى من شأن الإنسان وجعل كرامتة وحقوقه من كلياته التي لا تستقيم الحياة إلا بها، وتوعّد كل من سولت له نفسه أن يهينه أو يحط من قدره ومكانته، “ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البحر و البر ورزقناهم من الطيبات”، وسيّج هذه الكرامة والحرية بسياج لا يعتدي عليه إلا الظالم لنفسه، وأعلن المساواة الإنسانية وتحطيم الفوارق الاجتماعية تبعا للون أو العرق أو الدين، كما وضع أسسها النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع “يا أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر، إلا بالتقوى، إن أكرمكم عند الله أتقاكم” فأقرّ وحدة الجنس البشري، وجعل ميزان التفاضل بين الناس التقوى، التي بمقدور كل إنسان أن يحققها ويرتقي في سلمها، لأنها مرتبطة بجهده البشري وليست أمرا قهريا فوق إرادته، وحمل على استرقاق الإنسان وسلبه حريته، فأسس عوامل الحرية والتحرر النفسية والعقدية والأخلاقية، فتحرر بذلك الإنسان من كل الأغلال والقيود التي تحط من كرامته الآدمية.
فإذا كان القرآن هو سر وجود الأمة وباعث نهضتها وباني تاريخها، ومحقق شهودها الحضاري، فهو القادر أيضا على بعث الروح فيها من جديد، كلما تمت قراءته قراءة استيعابية مهيمنة، تستكشف معارفه ومقاصده، ومتى تم هجره قراءته وتدبرا إلا وتخلّفت الأمة عن الركب الحضاري. إذ بفضله خطت الأمة لنفسها تميزا لشخصيتها، على مستويات عدة عقدية ومعرفية وإنسانية وعمرانية، فإذا كان الرعيل الأول استفرع جهده فأخذ نصيبه وحظه من هذا المعين الصافي الذي لا ينضب، أصبح من واجب أبناء الأمة اليوم، أن يجتهدوا هم كذلك لأخذ نصيبهم من هذا الكتاب العزيز.
اليوم نحن في حاجة ماسة تستجيب لمقتضيات ومتطلبات العصر والواقع، آخذة بعين الاعتبار نوعية المشاكل والإكراهات التي تحاصر الأمة من كل جانب، قراءة غير مسافرة في الزمن الماضي إلا بما يخدم الحاضر المعيش. فالأمة لن تدشن حضورها بين الأمم، ولن تحقق خروجها الثاني، إلا إذا عادت إلى كتابها مرة أخرى دراسة وتدبرا، مستلهمة منه كل حاجاتها، فيتحقق بذلك نهوضها الحضاري مرة أخرى،“أنه لا دخول للمسلمين للحداثة إلا بحصول قراءة جديدة، فإذا كان البيان النبوي للقرآن قد دشن بذلك الفعل الحداثي الإسلامي الأول، وإذا أردنا أن ندشن الفعل الحداثي الثاني فلابد من قراءة تجدد الصلة بالقراءة النبوية الأولى“[3].
[1] ابن خلدون “المقدمة” دار القلم بيروت الطبعة الأولى السنة 1993 ص 439
[2] مالك ابن نبي “شروط النهضة”دار الفكر دمشق ترجمة عبد الصابور شاهين ط4 السنة 1987 ص57.
[3] طه عبد الرحمان “روح الحداثة” المركز الثقافي المغربي ط 3 السنة 2013 ص17