وأما الاحتمال الثاني فهو احتمال ممكن، وجائز في حق الله تعالى، لكنه لا يصح فيما يتعلق بأزلية العالم، لأن كلا من الشرع والعلم يشهدان بأن العالم مخلوق ليس أزليا، وله نهاية محددة ينتهي عندها يوم القيامة. وهذا أمر معروف من دين الإسلام بالضرورة، والعلم الحديث قال بإمكانيتها، وقد تنبأ بعض العلماء بكيفيتها.
وأما الاحتمال الثالث، فهو ممكن نظريا، ولا يصح عمليا، لأن وجود العالم الذي نعيش فيه شاهد على عدم صحته. وأما الاحتمال الرابع فهو مُمكن أيضا، ووارد في حق الله تعالى، وقد أخبرنا سبحانه أنه قبل خلقه للعالم كان قد خلق العرش، في قوله: (وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء) سورة هود: 7، لكن هذا ليس دليلا قطعيا على أن أفعال الله تعالى في الخلق ليس لها أوّل، وإنما يدل على أنه سبحانه كانت له مخلوقات قبل خلقه للعالم. ولم أعثر في الشرع على دليل صحيح ينص صراحة على أن أفعال الله في عملية الخلق لا أول لها، وإنما هو أمر جائز نظريا بحكم أزلية الله تعالى وأنه فعال لما يريد.
وأما الاحتمال الخامس، فهو ممكن أيضا، وجائز في حق الله تعالى، لأنه سبحانه فعّال لما يريد، وخلاق لما يشاء، ويشهد لذلك أن الله تعالى قبل خلقه للعالم خلق العرش، وقبل خلقه للإنسان كان قد خلق الأرض وهيّأها له بخيراتها وحيواناتها وكنوزها. لكننا لا نستطيع أن نجزم بأن الله لم يخلق شيئا قبل خلقه للعرش، وبمعنى آخر لا نستطيع أن نجزم بأن أفعال الله لها أول مُحدد، لأنني لم أعثر على دليل شرعي صحيح يُؤكد ذلك، ولم أعثر فيه أيضا على دليل قطعي ينفي ذلك، فالموضوع يبقى مفتوحا من الجهتين.
وأما آخرها-وهو الاحتمال السادس- فهو ممكن أيضا، وجائز في حق الله تعالى، بحكم أنه سبحانه فعال لما يريد، وعلى كل شيء قدير، لكنه لا يصح واقعيا، لأن الله أخبرنا أن هذا العالم ليس هو أول مخلوقاته، فقد خلق قبله العرش والماء.
لكن الأمر الذي نؤكد عليه –من خلال هذه الاحتمالات – أن الرأي الذي قال به ابن رشد لا يصح شرعا ولا عقلا ولا علما. علما بأن القول بإمكانية دوام الفاعلية –أي حوادث لا أول لها- لا يستلزم القول بالضرورة والأزلية على رأي ابن رشد، لأنه لو أثبت لله صفتي الإرادة والاختيار، ما قال بذلك الزعم الباطل.
وثانيا إنه أخطأ في تصوّر العلاقة بين العالم والله تعالى، فجعلها كعلاقة المعلول بعلته، وهذا خطأ بيّن وقع فيه ابن رشد، لأن العلاقة الحقيقية ليست معلول بعلته، وإنما هي علاقة مخلوق بخالقه، وهذه العلاقة تقوم على أساس العلاقة بين الخالق الكامل الأزلي المُطلق الإرادة، وبين المخلوق الناقص الفقير إلى غيره، فهي علاقة بين الخالق والمخلوق وبين الأزلية والحدوث، فالمخلوق في الحقيقة ليس مجرد معلول لخالقه، وإنما هو مخلوق له من العدم، علما بأن علاقة العلة بالمعلول، والمعلول بعلته، لا يصح استخدامها فيما بين الخالق والمخلوق، وإنما يصح استخدامها في تفسير علاقة المخلوقات فيما بينها، وتأثير بعضها في بعض، بناء على قانون العلية الذي يحكم عالم المخلوقات، فالمعلول له علة، والعلة هي معلولة لعلة أخرى، وهكذا. وهنا يتبين خطأ ابن رشد الفاحش عندما أخضع الخالق والمخلوق لعالم السببية؛ فجعل العلاقة بينهما كعلاقة العلة بالمعلول، والمعلول بعلته، بناء على نفيه لصفات الكمال التي يتصف بها الخالق العظيم، حتى أنه نفى عنه صفتي الإرادة والاختيار، في علاقته بالعالم، وجعلها علاقة ضرورة واضطرار، لا إرادة واختيار!!.
وثانيا إنه جعل العلاقة بين الخالق والعالم علاقة مُحَرِك بمُحَرَّك، بواسطة حركة المُحرك الذي لا يتحرك –أي الله تعالى- الذي حرّك العالم الأزلي. وقوله هذا هو زعم باطل لا يصح شرعا ولا علما. فأما شرعا فإن النصوص الشرعية نصت صراحة على أن الله تعالى خلق العالم بعد أن لم يكن، وأنه خلقه وليس حرّكه، كقوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء) سورة هود: 7، وأما علما فإن العلم الحديث أثبت بأدلة كثيرة أن العالم ليس أزليا، وأنه لم يكن موجودا قبل نحو 20 مليار سنة، وأنه خُلق خلقا بمادته ومكانه، وزمانه وحركته.
ورابعا إنه -أي ابن رشد- مع ثبوت قوله بدوام الفاعلية -حوادث لا أول لها- القائمة على الضرورة والاضطرار، فإن له أقوالا لم يُصرّح فيها بتلك المقولة، وصرّح بخلافها، ربما محاولة منه لتخفيف مخالفته للشرع، ومعارضة علماء الشريعة له، سعيا للتقريب بينهم وبين الفلاسفة المشائين القائلين بمقولته، فمن ذلك أنه قال: إن الفلاسفة -والمشائين خاصة- يُجوّزون القول بحوادث لا أول لها، ما دام الفاعل -أي الله- باقيا لا أول لوجوده ولا آخر، شريطة وجود المادة الأزلية مُسبقا. وقالوا أيضا: إن أفعال الله صادرة عنه بإرادة منه لا بالضرورة الطبيعية، وقالوا أيضا، ومنهم أرسطو: إن الله مريد مُختار، فعله صادر من غير ضرورة.