من الذي يجب أن يحاسب أولا.. العلمانيون أم الصهاينة؟ نبيل غزال

جريدة الأحداث تنشر مقالا ضد القضية الفلسطينية يدعو إلى الاستسلام، ويتهم العرب بوصفهم “مجرد مجموعات من القطعان، تلوك كل يوم كلاماً، أشبه بالتبن، ولا تنتج شيئاً نافعاً للإنسانية، ولا تنتج غير الإرهابيين والمتطرفين” ويعظم الصهاينة بكونهم: “..شعب حر، ودولة حرة، ومؤسسات دستورية حرة”.

بعد أن وضعت الحرب أوزارها، وتوقف القصف الهمجي على قطاع غزة، بدأت العديد من الجهات العربية والغربية تطالب بمحاكمة قادة الكيان الصهيوني وإصدار عقوبات بحقهم، وذلك بسبب الأسلحة المحرمة دوليا والمجازر الوحشية التي ارتكبوها في حق الأبرياء العزل من أبناء غزة المسلمة، وهذا أمر مطلوب ولا شك، فعلى على الجاني أن يدفع ثمن جريمته كائنا من كان، غير أننا لا يجب أن نغفل أبدا ونحن في موطن محاسبة عن محاسبة طرف يلعب دورا رئيسا في اللعبة الصهيونية، ويروج لفكرها ومبادئها في بلاد المسلمين.

فما تابعناه جميعا من تكبر وغطرسة للكيان الصهيوني وعدم امتثاله لقرارات مجلس الأمن ودعم أمريكا والاتحاد الأوروبي المطلق له، مقابل عجز عربي وإسلامي تام عن التحرك عسكريا لإيقاف العدوان، ما هو إلا ثمرة عمل صهيوني دءوب دام سنين عديدة. فالصهاينة ما وصلوا إلى ما وصلوا إليه اليوم إلا بعد جهد جهيد وعمل جبار، فقد تمكنوا بمكر ودهاء من إخضاع جل دول العالم للتبعية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لكيانهم، فأصبحت معظم دول العالم العربي مطبعة علنا أو سرا مع هذا الكيان، وهذا ما خطط له الصهاينة تماما في بروتوكولاتهم بقولهم: “لقد بذرنا الخلاف بين كل واحد وغيره في جميع أغراض الأمميين -غير اليهود- الشخصية والقومية، بنشر التعصبات الدينية والقبلية خلال عشرين قرناً، ومن هذا كله تتقرر حقيقة: هي أن أي حكومة منفردة لن تجد لها سنداً من جاراتها حين تدعوها إلى مساعدتها ضدنا، لأن كل واحدة منها ستظن أن أي عمل ضدنا هو نكبة على كيانها الذاتي”.
ولتحقيق هذه الغاية جند الصهاينة نخبة من العرب عبأتها بمبادئ وأفكار علمانية، تعمل داخل الصف المسلم على تدجين الشعوب وتفريقها شيعا وأحزابا، وتجعل صراعاتها بعيدة عن الدين والهوية، محصورة في الأرض والعرق والقومية العصبية الجاهلية، ونصبوا لهم فلاسفة وقادة، وأعلاما ومفكرين وساسة أغلبهم من اليهود الصهاينة كـ”دارون” و”ماركس” و”نيتشه” وهو الأمر الذي خطط له الصهاينة بمكر في بروتوكولاتهم أيضا، قالوا: “..لاحظوا هنا أن نجاح دارون وماركس ونيتشه قد رتبناه من قبل، والأمر غير الأخلاقي لاتجاهات هذه العلوم في الفكر الأممي سيكون واضحاً لنا على التأكيد..”.
فتولى بذلك العلمانيون كبر المهمة التخريبية في البلاد الإسلامية، فأعلنت منابرهم الحرب على الإسلام ومبادئه، وعملوا جاهدين على تفريغه من محتواه ليصبح قاصرا على بعض الشعائر التعبدية لا دخل له في تأطير حياة الناس.
فأزبدوا وأرعدوا، وشنوا غارات لا هوادة فيها على عقيدة الولاء والبراء، وعملوا على إلغائها من المقررات التعليمية والدروس والمحاضرات وخطب الجمعة، فهي بالنسبة لهم ثقافة ظلامية، ودعوة صريحة إلى الحقد والكراهية ونبذ الآخر، علما أن موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين، وحب أهل الطاعة وبغض أهل المعصية هو صلب كلمة التوحيد والفيصل بين الكفر والإيمان، إذ تشكل عند المؤمن حاجزا منيعا لحماية هويته الثقافية والسياسية.
وركزوا من خلال الإعلام والتعليم على تعظيم القوة المادية الغربية وبث الهزيمة النفسية عند المسلمين وتحسيسهم بالضّحالة الفكرية في مقاومة نظريات الغرب والعلمانيين، وهو ما فعلته جريدة الأحداث في عددها 3634 بتاريخ 22 يناير 2009 حين نشرت مقالا للعلماني المتأمرك شاكر النابلسي قال فيه “فنحن -شئنا أم أبينا، رضينا أم رفضنا- لا نستطيع أن نبتَّ في أمرٍ من أمورنا السياسية المعقدة، دون الاتفاق والتنسيق مع الغرب. فهو الأقوى، وهو الأعلى، وهو أرباب هذه الأرض، بما يملك من مؤسسات سياسية، وعلمية، وصناعية، واقتصادية، وثقافية، وعسكرية”، “ففي إسرائيل صحافة حرة، وأحزاب حرة، ورأي عام حر، وقضاء حر، ومؤسسات سياسية دستورية لمحاكمة المسئولين السياسيين والعسكريين”، “من أين لنا بقاضٍ كإلياهو فينوغراد، الذي هو نتاج شعب حر، ودولة حرة، ومؤسسات دستورية حرة؟”.
إن أبا رغال(1) النابلسي هذا، كان فيما مضى ماركسيا؛ وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي أدار الوجهة -كحال معظم الحداثيين- تجاه الغرب ليصبح بذلك من أكابر مجرمي الليبراليين الجدد، المروجين للمشروع الأمريكي في البلاد المسلمة والمدافعين عن جرائمه واحتلاله، وكتبه ومقالاته يسخّرها لخدمة الاحتلال الأمريكي للعراق وأفغانستان، والاحتلال الصهيوني لفلسطين، وإمعانا في العداء لقضايا الأمة ذات البعد الإسلامي تصر جريدة الأحداث على نشر ما ينتجه هذا العلماني الخائن.
فأبو رغال النابلسي لم يأت في كتاباته بطرح جديد، إنما هو تكرار واجترار لكلام المستشرقين الحاقدين على الإسلام وأهله، فمن قبل فرح كثيرا بتدمير الفلوجة على أيدي الصليبيين، وادعى أن التوجه إلى بيت المقدس سببه العامل الاقتصادي، وتحريم الربا سببه توجيه ضربة مالية لليهود، والإرهاب لا علاقة له بالكيان الصهيوني.
واليوم، وغزة تحت وطء القصف ينبري للدفاع عن الكيان المحتل لأرض فلسطين، المضطهد شعبها بالتهجير والاعتقال والقتل والإبادة الجماعية، ليصفه بالدولة الديمقراطية.
إن أمثال أبي رغال من العرب لا عجب منهم ولا استغراب، وإنما العجب والاستغراب هو أن تنشر جرائدنا الوطنية التي تتلقى الدعم من أموال المغاربة المسلمين مقالات لا تمت إلى هوية الأمة وانتمائها دون رقابة ولا متابعة، حتى يصبح القارئ لها لا يميز بينها وبين صحائف “يدعوت أحرنوت” و”هاآرست” وغيرها، بل -ومن باب الإنصاف- قد تكون بعض جرائد الصهاينة أكثر حيادا من جرائد المنسلخين عن هويتهم وانتمائهم.
إن أمثال أبي رغال من العرب لا عجب منهم ولا استغراب، وإنما العجب والاستغراب هو أن تنشر جرائدنا الوطنية التي تتلقى الدعم من أموال المغاربة المسلمين مقالات تهدم مقومات هوية الأمة وانتمائها دون رقابة ولا متابعة، مما يجعلها تتماهى مع صحائف “يدعوت أحرنوت” و”هاآرست” وغيرهما، بل -ومن باب الإنصاف- قد تكون بعض جرائد الصهاينة أكثر حيادا من جرائد المنسلخين عن هويتهم وانتمائهم.
إن ما تسوده بعض الأقلام من مقالات تحارب كل مظاهر التدين والرجوع إلى الهوية، يجعلنا نستيقن أن رجالات الاحتلال الغربي نجحوا في أن يغرسوا بين صفوفهم مَن سيمكنهم من بسط سيطرتهم وإكمال مشروع احتلالهم، فمن قبل وقف الجنرال “شارل ديغول” وهو يغادر الجزائر المسلمة مذؤوما مدحورا قائلا: “لقد زرعنا فيها بذوراً ستينع بعد حين”، وبالفعل أينعت بذور الاحتلال في جل الدول العربية والإسلامية، وخرجت ثمارها الخبيثة في كل من فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها من بلاد الإسلام.
أولئك هم المسؤولون عن هزائم المسلمين في جل حروبهم الخاسرة؛ لأنّ فيهم “قابلية الاستعمار” وروح الهزيمة والصّغار، فهم عوامل النكسة ومعاول الهدم في صرح الحضارة الإسلامية؛ لأنهم يعيشون اغتراباً عن الأمة، وانحيازاً إلى أعداء الملة فهم بتعبير بعض المؤلِّفين بمثابة “جُزُر في أوطانهم”.
والتاريخ لن يرحمهم وأمثال هؤلاء -أعزكم الله تعالى- مصيرهم مزبلة التاريخ لا قيمة لهم، هذا في الدنيا طبعا، أما في الآخرة فحسابهم عند الله تعالى.
ضيّعوا الحضارة الإسلامية وعطّلوا نهضة الأمة قرونا طويلة، ورحم الله العلامة أحمد شاكر حين أحسن وصفهم فقال: “استولى المبشرون على عقله وقلبه، فلا يرى إلا بأعينهم، ولا يسمع إلا بآذانهم، ولا يهتدي إلا بهديهم، ولا ينظر إلا على ضوء نارهم يحسبها نوراً، ثم هو قد سمّاه أبواه باسم إسلامي، وقد عُدّ من المسلمين -أو عليهم- في دفاتر المواليد، وفي سجلات الإحصاء، فيأبى إلا أن يدافع عن هذا الإسلام الذي أُلبِسَه جنسيةً، ولم يعتقده ديناً، فتراه يتأوّل القرآنَ ليُخضعه لما تعلّم من أساتذته، ولا يرضى من الأحاديث حديثاً يخالف آراءهم وقواعدهم، يخشى أن تكون حجتهم على الإسلام قائمة!” (حراسة الفضيلة للشيخ بكر أبو زيد).
أولئك حماة إرث العلماني الماسوني مصطفى كمال أتاتورك الذي تحالف مع الغرب قصد إسقاط الخلافة الإسلامية وإعلان الجمهورية التركية العلمانية سنة 1924، ليخرج علماني آخر بعد أشهر معدودة (1925) لينكر نظام الحكم في الإسلام، ويتلوه علماني ثالث لينكر قصص القرآن ويطعن في حقيقتها في كتابه في الشعر الجاهلي (1926)، أما علمانيو اليوم فليس لديهم ما يضيفوه فهم يعملون جاهدين على حماية المكتسبات التي حققها أسلافهم مستمدين العون والحماية من الغرب العلماني الحاقد على الصحوة الإسلامية التي تهدد هيمنته الفكرية واستمرار تبعية اقتصاد بلداننا له.
وأخيرا نقول: ما ضيّع الأقصى بعد أن فتحه عمر رضي الله عنه وحرّره صلاح الدين إلا العلمانيون، وما سلب اليهود فلسطين الغراء من أيدينا إلا بسبب توليتنا وجوهنا قبل الشرق والغرب، وإعراضنا عن تعاليم ديننا السمحة، وتغييب عقيدة الولاء والبراء من حياتنا، واختلافنا فيما بيننا، وعدم استغلال خيراتنا وثرواتنا الطبيعية والبشرية.
فمتى يحاسب سفراء الصهاينة في الدول المسلمة؟
——————-
(1): أبو رغال: كان دليلا لأبرهة الأشرم حين توجه إلى الكعبة ليهدمها فمات في الطريق، وقبره بين مكة والطائف.
قال جرير: إذا مات الفرزدق فارجموه — كما ترمون قبر أبي رغال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *