جهاد النفس وهواها أصل كل جهاد

المحبــوس من حبس قلبه عن ربه تعالى، والمأسور من أسره هــواه، والسر في ذلك أن صاحب الهوى لا يرى إلا الهوى فإذا تكلم فبهوى، وإذا صمت فلهوى، وإذا فعل فلهوى، وإذا ترك فلهوى، ولأنه يعيش في محيط هواه الذي أضله وأعماه وأصمه والذي أسره وقيده الهوى.

وعليه كان “جهاد النفس والهوى أصل جهــاد الكفار والمنافقين، فإنه لا يقدر على جهادهم حتى يجاهد نفسه وهواه أوَّلا حتى يخرج إليهم” كما نقله ابن القيم رحمه الله عن شيخه ابن تيمية رحمه الله في روضة المحبين 374.
ولذا فالمسلم يحتاج “إلى أن يخاف الله، وينهى النفس عن الهوى، ونفس الهوى والشهوة لا يعاقب عليه، بل على اتباعه والعمل به، فإذا كانت النفس تهوى وهو ينهاها، كان نهيه عبادة لله، وعملاً صالحا.
..فيؤمر بجهادها كما يؤمر بجهاد من يأمر بالمعاصي ويدعو إليها وهو إلى جهـاد نفسه أحوج، فإن هذا فرض عين، وذاك فرض كفاية، والصبر في هذا من أفضل الأعمال، فإن الجهاد حقيقة ذلك الجهاد، فمن صبر عليه صبر على ذلك الجهاد” الفتاوي (10/635-636).
قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: “تأملت جهاد النفس، فرأيته أعظم الجهاد” (صيد الخاطر، 82).
قال بعضهم:
يا من يجاهد غازيا أعداء ديـ *** ن الله يرجوا أن يعان وينصرا
هلا غشيت النفس غزوا إنها *** أعدى عدوك كي تفوز وتظفرا
مهما غلبت جهادها وعنادها *** فلقد تعاطيت الجهاد الأكبرا
وقــال ابن القيم رحمه الله: “قال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) علق سبحانه الهداية بالجهاد، فأكمل الناس هداية أعظمهم جهاداً.
وأفرض الجهاد جهاد النفس، وجهاد الهوى، وجهاد الشيطان، وجهاد الدنيا، فمن جاهد هذه الأربعة في الله هداه الله سُبُلَ رضاه الموصلة إلى جنته، ومن ترك الجهاد فاته من الهدى بحسب ما عطل الجهاد، قال الجنيد رحمه الله: (والذين جاهدوا أهواءهم فينا بالتوبة لنهدينهم سبل الإخلاص)، ولا يتمكن من جهاد عدوه في الظاهر إلا من جاهد هذه الأعداء باطنا، فمن نُصِرَ عليها نُصِرَ على عدوه، ومن نصِرَت عليه نُصِر عليه عدوه” الفوائد 59.
قــال صلى الله عليه و سلم: “أفضل الجهــاد أن يجاهد الرجل نفسه وهواه” (رواه ابن النجار وأبو نعيم والديلمي وصححه العلامة الألباني رحمة الله على الجميع، أنظر صحيح الجامع الصغير 1247).
وعليه فمن جاهد نفسه في الله بصدق، فإنه يحصل له من الهداية والمعونة والتوفيق على تحصيل مطلوبه العجب العجاب، كما قال الإمام ابن عقيل رحمه الله في كتابه الفنون 2/496: “ولو لم يكن من بركات مجاهدة النفس في حقوق الله، والانتهاء عن محارم الله إلا أنه يعطف عليك، فيسخرها لك، ويطوعها لأمرك، حتى تنقاد لك، ويسقط عنك مؤنة النزاع لها والمجاهدة، حتى تصير طوع يدك وأمرك، تعاف المستطاب عندها إذا كان عند الله خبيثا، وتؤثر العمل لله، وإن كان عندها بالأمس كريها، وتستخفه وإن كان عليها ثقيلا، حتى تصير رقا لك، بعد أن كانت تسترقك”.
ومجاهدة النفس يسيرة على من يسرها الله عليه، لكن لا يعني هذا أن نستهين بالأمر بل الواجب أن نشمر ونعد عدة العلم وقوة الهمة، فإن السير إلى الله حثيثا عزيز على الكسلان المهين.
قال الإمام ابن حزم رحمه الله: “واعلم أن رياضة النفس أصعب من رياضة الأسد، لأن الأسد إذا سجنت في البيوت التي تتخذ لها الملوك أمن من شرها، والنفس إذا سجنت لم يؤمن شرها” مداواة النفوس 167.
والذي ينبغي عند مجاهدة النفس حملها على فعل الخيرات وترك المنكرات.
قال الناظم:
وجاهدنها بإلزام النوا *** فل الكثيرة وهجران الهوى
جهادها الحمل على المكاره *** إن شرعت والكف عما تشتهي
مع التنبه إلى أن هذا الباب شرطه أن يسلم العبد من البدعة والمحدثة ويوافق الكتاب والسنة.
قال الناظم:
والشرط في جهادها السني *** وفاقه لسنة النبي
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “تزكية النفوس مسلم إلى الرسل وإنما بعثهم الله لهذه التزكية وولاهم إياها وجعلها على أيديهم دعوة وتعليما وبيانا وإرشادا لا خلقا ولا إلهاما، فهم المبعوثون لعلاج نفوس الأمم قال الله تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ)، وقال تعالى: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ).
وتزكية النفوس: أصعب من علاج الأبدان وأشد فمن زكى نفسه بالرياضة والمجاهدة والخلوة التي لم يجىء بها الرسل فهو كالمريض الذي يعالج نفسه برأيه، وأين يقع رأيه من معرفة الطبيب، فالرسل أطباء القلوب فلا سبيل إلى تزكيتها وصلاحها إلا من طريقهم، وعلى أيديهم وبمحض الانقياد والتسليم لهم والله المستعان” المدارج 2/315.
وأساس ذلك العلم النافع المأخوذ عن أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام ورضي الله عنهم.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “الْعِلْمُ الْمَشْرُوعُ وَالنُّسُكُ الْمَشْرُوعُ مَأْخُوذٌ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا مَا جَاءَ عَمَّنْ بَعْدَهُمْ فلا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ أَصْلا، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ مَعْذُورًا بَلْ مَأْجُورًا لاجْتِهَادِ أَوْ تَقْلِيدٍ، فَمَنْ بَنَى الْكَلامَ فِي الْعِلْمِ الأصُولِ وَالْفُرُوعِ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالآثَارِ الْمَأثُورَةِ عَنْ السَّابِقِينَ فَقَدْ أَصَابَ طَرِيقَ النُّبُوَّةِ، وَكَذَلِكَ مَنْ بَنَى الإرَادَةَ وَالْعِبَادَةَ وَالْعَمَلَ وَالسَّمَاعَ الْمُتَعَلِّقَ بِأصُولِ الأعْمَالِ وَفُرُوعِهَا مِنْ الأحْوَالِ الْقَلْبِيَّةِ وَالأعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ عَلَى الإيمَانِ وَالسُّنَّةِ وَالْهَدْيِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ فَقَدْ أَصَابَ طَرِيقَ النُّبُوَّةِ، وَهَذِهِ طَرِيقُ أَئِمَّةِ الْهُدَى” الفتاوي 10/362-363.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *