في ظل هذا الصراع حول القيم والقوانين والمفاهيم الكونية، أليس الأجدى والأفضل إخضاعها لنقاش وطني، ثم في رأيكم من له الأهلية لتحديد ما يصلح وما لا يصلح للمغاربة؟
ما تزال إشكالية حقوق الإنسان ونقاش الكونية والخصوصية الثقافية والعقدية مطروح في الساحة المغربية، وقد يثار الموضوع بصيغة تساؤل ينفي إمكانية التوفيق ما بين الكونية والخصوصية، أو يتم التعامل معه من خلال استدعاء اﻹديولوجيا وتجاذبات الصراع السياسي.
ويمكن التمييز داخل الساحة المغربية بين ثلاثة فرق:
– فريق مع كونية حقوق الإنسان، ويعترها غير قابلة للتجزيء والاستثناء، تحت أي ذريعة بما في ذلك الخصوصية العقدية.
– فريق على العكس من ذلك يرفض الكونية ويعتبرها وجه من أوجه الهيمنة الثقافية الغربية، تسعى لفرض منظومة معينة لحقوق الإنسان أفرزتها الفلسفة السياسية للقرن 18م بأوروبا، والتي عكسها الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن لسنة 1789.
– وهناك فريق ثالث يوفق بين الموقفين، إذ يؤكد أن الكونية لا تلغي الخصوصيات، ويستند إلى بعض الاتفاقيات والمواثيق الدولية ذات الصلة منها “إعلان وبرنامج عمل فيينا” المعتمد إثر المؤتمر الدولي لحقوق الإنسان المنعقد في فيينا بتاريخ 25 يونيو 1993 حيث ينص في الفقرة الخامسة منه: “على المجتمع الدولي أن يعامل حقوق الإنسان على نحو شامل، وبطريقة منصفة ومتكافئة، وعلى قدم المساواة، وبنفس القدر في التركيز، وفي حين أنه يجب أن توضع في الاعتبار أهمية الخاصيات الوطنية والإقليمية ومختلف الخلفيات التاريخية والثقافية والدينية، فإن من واجب الدول بصرف النظر عن نظمها السياسية والاقتصادية والثقافية تعزيز حماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية”.
وفي إطار القبول بالكونية التي ساهمت فيها كل الثقافات العالمية بما فيه تعزيز لحقوق الإنسان، ونظرا لمركزية اﻹنسان وأهمية حقوقه الأساسية بعيدا عن اﻹيديولوجيا والتموقف السياسي، أعتبر أن موقف الفريق الأخير يمتح من فلسفة تهدف إلى إدماج كل المكونات الثقافية والدينية في إطار الاحترام والتعايش سعيا إلى خلق أرضية مشتركة من السلم والاستقرار دون إقصاء أو حرمان شريحة واسعة من المواطنين من حقهم في الخصوصية ﻻ سيما إذا كان دستور البلاد يضمن لهم ذلك.
صحيح أن البعض يدفع بمسألة سمو المواثيق الدولية على القانون الوطني وضرورة الموائمة، لكن في المقابل هناك آلية التحفظ التي تسمح للدول بحماية سيادتها وهويتها.
وفي كل اﻷحوال ﻻ ينبغي أن تتحول مسألة الكونية إلى هيمنة ثقافية لمحور الغرب ومحاولة إلزام الآخرين بنمطية تلغي التنوع والاختلاف، وإقصاء كل الثقافات الأخرى، كما لا ينبغي أن تتحول الخصوصية إلى مبرر لتسويغ الانتهاكات و التجاوزات التي قد تمس حقوق الإنسان.
وبالنظر إلى مرجعيتنا فإن الإسلام كرم الإنسان وجعله موضوع كل الرسالات، وجاء الفكر الإنساني لتأكيد هذا التكريم على امتداد الأزمنة واختلاف الأمم التي عرفت عدة إعلانات للحقوق توجت بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 10 دجنبر 1948، والذي تلته عدة عهود واتفاقيات دولية أهمها العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية وغيرهما.
وقد صدرت على ضوء ذلك عدة وثائق عن حقوق الإنسان تستمد مادتها من الإسلام، وعقدت عدة مقارنات بينما هو وارد في المواثيق الدولية وما جاءت به الشريعة الإسلامية، وقد انتهت المقارنات المذكورة إلى القول بتطابق الكثير من الأحكام مع وجود اختلاف في النزر اليسير.
هذا على المستوى النظري الأكاديمي، لكن على مستوى الممارسة يمكن للقضايا ذات علاقة بحقوق الإنسان مثل قضايا العيش الكريم وحرية التعبير والرأي وحرية الصحافة والحقوق الاجتماعية (السكن. الصحة. التعليم. الشغل..) والحق في التنمية ومطالب كربط المسؤولية بالمحاسبة، وحماية المال العام من التلاعب والإهدار والتمييز “ما بين التجارة والإمارة” وإسقاط الفساد والاستبداد، والفصل ما بين السلط، يمكن لمثل هذه القضايا والمطالب أن تجمع الطيف الحقوقي باختلاف ألوانه في جبهة واحدة كما كان “حلف الفضول” الذي اجتمع لنصرة المظلوم.
وهذا التدبير الإيجابي للاختلاف هو الذي يدفعنا إلى أن يعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه دون أن يتحول ذلك إلى صراع بين أبناء الوطن الواحد واصطفاف شقي بينهم.
القضايا العادلة الواضحة تحتاج إلى برنامج عمل للتحسيس والرصد والمناهضة، أما القضايا التي حولها خلاف نظري فتحتاج إلى نقاش من أجل الدراسة ومزيد من التوضيح لرفع الالتباسات التي قد يقع فيها البعض كما هو الحال بالنسبة لموضوع الإرث مثلا.
ـــــــــــــــــــــــــ
د.محمد حقيقي: المدير التنفيذي للرابطة العالمية للحقوق.