سنة النبي صلى الله عليه وسلم هي كل ما أثر عنه من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خلقية أو خُلقية أو سيرة .
وقد منَّ الله تعالى على الأمة الإسلامية بأن حفظ لها سنة نبيها عليه الصلاة والسلام، حيث قيض رجالا جهابذة بذلوا أعمارهم وأوقاتهم في سبيل تتبع سنة النبي صلى الله عليه وسلم وجمعها وحفظها في الصدور والسطور، وتنقيتها من كل ما ألصق بها من أكاذيب ومفتريات الكذابين والوضاعين، فنقلوها إلينا صافية نقية لا شية فيها تسر الناظرين، وصنفوا
في ذلك مصنفات كثيرة عظيمة، تجمع ما صح من أخبار وآثار عن نبينا صلى الله عليه وسلم، وعن صحابته الكرام.
سنة نبينا صلى الله عليه وسلم غنية
أغنانا الله عز وجل بالقرآن وبالسنة؛ ففيهما نجد ما يتعلق بكل شأن من شؤون الحياة، وفيهما نجد لكل سؤال جواب ولكل حادث حديث، وكمال قال الإمام الشافعي رحمه الله [في الرسالة، ص20]: “فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلةٌ إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها”.
فلا نحتاج بعدهما إلى ما عند الآخرين من أهل الديانات، وأرباب الملل والنحل والفرق. لذلك يُروى في الحديث الذي أخرجه أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وحسنه الألباني في المشكاة [177] أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه صحيفة من التوراة، فغضب وقال: “أفي شك أنت يا ابن الخطاب”.
فأيُما أمر أو شأن من شؤون الحياة، إلا وفيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنةٌ أو حكمٌ أو إرشاد أو توجيه.. وحيثما يمم المسلم وجهه يجد سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ففي الأكل والشراب سنة، وفي النوم سنة، وفي اللباس سنة، وفي البيت سنة، وفي الطريق سنة، وفي الفرح سنة، وفي الضحك سنة، وفي اللهو والمرح سنة، وفي الحزن سنة، وفي الغنى سنة، وفي الفقر سنة، وفي الصحة سنة، وفي المرض سنة، وفي الحب سنة، وفي البغض سنة، وفي الصداقة والأخوة سنة، وفي العداوة سنة، في الزواج سنة، وفي الطلاق سنة، وفي المسجد سنة، وفي المقبرة سنة، وفي السوق سنة، وفي المناسبات والأعياد سنة، وفي التجارة والإجارة ومختلف المعاملات المالية سنة، وفي التعامل مع المسلمين سنة، وفي التعامل مع الكفار سنة، وفي السلم سنة، وفي الحرب سنة، …إلخ. فأي شيء وأي شأن إلا وفيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة .
فلم يترك النبي صلى الله عليه وسلم شيئا مما يحتاجه المسلم إلا بينه عليه الصلاة والسلام.
روى أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في جامع بيان العلم [ص431]، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما تركتُ شيئا مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به، ولا تركتُ شيئا مما نهاكم الله عنه إلا وقد نهيتكم عنه”، وفي صحيح مسلم [رقم662] عن عبد الرحمن بن زيد قال: قيل لسلمان: قد علمكم نبيكُم كل شيء حتى الخراءة؟ فقال سلمان: أجل نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو ببول، أو يستنجي أحدُنا بأقل من ثلاثة أحجار، وأن لا يستنجي برجيع أو بعظم”.. فما أعظم هذا الدين، وما أعظم وما أجمل سنة نبينا صلى الله عليه وسلم…
الواجب علينا تجاه سنة نبينا صلى الله عليه وسلم:
إذا أدركنا هذا الخير العميم العظيم الذي أكرمنا الله به؛ فإن من واجبنا تجاه سنة نبينا صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمور :
أولا: تعلم سنة النبي صلى الله عليه وسلم:
فإن كثيرا من المسلمين يعانون جهلا فظيعا منكرا بسنة نبيهم عليه الصلاة والسلام. ولا يتصف بهذا الجهل عوام الناس فقط، ممن لا يقرأ ولا يكتب، بل إن هذا الجهل قد تعشش وفرخ بين المثقفين والمتعلمين، فتجد أساتذة وأصحاب شهادات عليا، في مختلف التخصصات، عندهم قحط وجفاف بمعرفة السنة، بل تجد منهم من يعادي بعض السنن وينتقدها ويستهزأ بها جهلا وتكبرا، وهو يظن نفسه مفكرا وباحثا ومثقفا، ويجهل أنه جاهل …
ـ قال ابن الجوزي رحمه الله في صيد الخاطر[ص289]: “نظرتُ في قول أبي الدرداء رضي الله عنه: ما أعرف شيئا مما كنا عليه اليوم إلا القبلة .”فقلت: واعجبا كيف لو رآنا اليوم، وما معنا من الشريعة إلا الرسم؟ الشريعة هي الطريق، وإنما تُعرف شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم إما بأفعاله أو أقواله.
وسبب الانحراف عن طريقه صلى الله عليه وسلم إما الجهل، أو الخروج عليها، فيجري الإنسان مع الطبع والعادات، وربما اتخذ ما يضاد الشريعة طريقا، وقد كانت الصحابة شاهدته وسمعت منه، فقلَ أن ينحرف أحدٌ عن جادته، إلا أن أبا الدرداء رضي الله عنه رأى بعض الانحراف لميل الطباع فضجَ، فإنه يعرف الإنسانُ الصواب، غير أن طبعه يميل عنه .
وما زالت الأحاديث المنقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم يقل الإسعاد بها والنظر فيها، إلى أن أُعرض عنها بالكلية في زماننا هذا، وجهلت إلا النادر، واتُخذت طرائق تضاد الشريعة، وصارت عادات، وكانت أسهل عند الخلق من اتباع الشريعة.
وإذا كان عامة من يُنسب إلى العلم قد أعرض عن علوم الشريعة، فكيف العوام ؟.”اهـ.
فيجب أن نسعى في تحرير أنفسنا من قيود الجهل وظلامه، وفي تنوير حياتنا بتعلم سنة النبي المصطفى؛ فإنها نور، قال الله تعالى: “يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا” الأحزب45ـ46.
فكيف يترك الإنسان هذا النور ويولي ظهره لهذا السراج المنير، ويمشي في الظلمات، ثم يبحث عن النور حيث لا يجده؟ قال تعالى: “أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب، ظلماتٌ بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور” النور40.
كيف نتعرف على الله تعالى ونحن نجهل أو نتجاهل سنة نبيه؟ وكيف نعبد الله على الوجه الصحيح، ونحن نجهل السنة؟ وكيف نحذر البدع والضلالات، إذا كنا نجهل السنة؟
فينبغي أن ندفع عن أنفسنا ظلام الجهل بنور سنة نبينا صلى الله عليه وسلم، ونسعى في طلب العلم بها، ونسأل عنها العلماء، ونبحث عنها في الكتب والمصنفات التي جمعها علماء الحديث والسنة، وننظر في شروحها..
وجب أن نبذل شيئا من جهدنا وأوقاتنا وأموالنا في تعلم سنة نبينا صلى الله عليه وسلم، فقد بذل الأولون من الصالحين أعمارهم وأموالهم كلها في تتبع سنة النبي صلى الله عليه وسلم وتعلمها، واسترخصوا النفس والنفيس في سبيل تحصيلها، فتركوا الأوطان وفارقوا الأهل والأحباب، ورحلوا في أرض الله الواسعة من بلد إلى بلد، حيث لم تكن سيارات ولا قطارات ولا طائرات، وواجهوا المخاطر وتحملوا المشاق؛ بحثا عن أهل العلم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ليتعلموا منهم ويقتبسوا منهم نورا .
فروى الخطيب البغدادي وابن عبد البر عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: “إن كان ليبلُغُني الحديث عن الرجل فآتي بابه، وهو قائلٌ، فأتوسد ردائي على بابه، تسفى الريح على من التراب، فيخرج فيقول: يا ابن عم رسول الله، ما جاء بك؟ ألا أرسلت إلي فآتيك؟ فأقول: أنا أحقُ أن آتيك. فأسأله عن الحديث”.
وهذا ابن معين رحمه الله تعالى خلف له أبوه ألف ألف درهم، فأنفقها كلها على تحصيل الحديث، حتى لم يبق له نعلٌ يلبسه، وكان حريصا على لقاء الشيوخ والسماع منهم خشية أن يفوتوه .
ومن أئمة التابعين مكحول الشامي [112هـ] رحمه الله يقول: “أعتقتُ بمصر فلم أدع بها علما إلا حويتُه فيما أرى، ثم أتيت العراق ثم المدينة، فلم أدع بهما علما إلا حويتُه فيما أُرى، ثم أتيت الشام فغربلتها .
وقد بلغ حرصهم على الطلب أن أحدهم كان ينزل به الهم والحزن ويصيبه المرض إذا فاته شيء من العلم. فقد ذكروا حديثا لشعبة لم يسمعه، فجعل يقول: [وا حزناه]، وكان يقول: إني أذكر الحديث يفوتني فأمرض.” (نقلا عن: الشيخ محمد حسين يعقوب: منطلقات طالب العلم/86).
وهذا الإمام أبو عبد الرحمن بقي بن مخلد الأندلسي [ت279]، رحل من أقصى الغرب [الأندلس] إلى أقصى الشرق [بغداد] على قدميه ليلقى الإمام أحمد، فلما وصل إلى بغداد، بلغه أن الإمام ممنوع ومحبوس في داره من الخروج والدرس، فتلطف وتحيل حتى لقيه فأخذ العلم عنه. وكانت حيلته أنه لما وصل إلى بغداد وبلغه خبر محنة الإمام أحمد، سأل عن منزله، فأتاه فقال له: يا أبا عبد الله، رجل غريب، نائي الدار، هذا أولُ دخولي هذا البلد، وأنا طالب حديث، ومقيد سنة، ولم تكن رحلتي إلا إليك . قال الإمام أحمد: إن موضعك لبعيد، وما كان شيءٌ أحب إلي من أن أحسن عون مثلك على مطلبه، غير أني في حيني هذا ممتحن بما لعله قد بلغك. قال بقي بن مخلد: هذا أولُ دخولي، وأنا مجهول العين عندكم، فإن أذنت لي أن آتي كل يوم في زي السؤال، فأقول عند الباب ما يقولونه، فتخرج إلى هذا الموضع، فلو لم تحدثني في كل يوم إلا بحديث واحدٍ لكان لي فيه كفاية. فقال: نعم، على شرط أن لا تظهر في الحِلق ول عند المحدثين. فقلت: لك شرطك. قال: فكنت آخذ عصا، وألف رأسي بخرقة مدنسة، وأجعل كاغدي ودواتي في كمي، ثم آتي بابه، فأصيح: الأجر رحمك الله -والسؤال هناك كذلك- فيخرج إلي ويغلق باب الدار، ويحدثني بالحديثين والثلاثة والأكثر، فالتزمت ذلك حتى مات الممتحِن له، وولى بعده من كان على مذهب السنة فظهر أحمد وعلتْ إمامتُه، وكانت تُضرب إليه آباط الإبل، فكان يعرف لي حق صبري، فكنت إذا أتيتُ حلْقته فسح لي، ويقص على أصحاب الحديث قصتي معه، فكان يناولني الحديث مناولة، ويقرؤه علي وأقرؤه عليه. (منطلقات طالب العلم91ـ92).
هكذا كان شأن السابقين، فأين نحن من تعلم سنة نبينا صلى الله عليه وسلم، ووسائل ذلك ميسرة؟ هل نحمل هم التعلم أصلا؟ هل ننفق شيئا من أموالنا في شراء كتاب من كتب السنة؟ هل في بيت أحدنا كتاب من كتب السنة؟
إننا ننفق الشيء الكثير على تزيين بيوتنا وتوفير الكماليات فيها، بله الحاجيات والضروريات.. فكم ننفق في سبيل العلم؟ أعني: كم ننفق من الأموال ومن الأعمار والأوقات؟
ثانيا: لزوم السنة والاجتهاد في العمل بها قدر المستطاع :
إذا تعلمنا شيئا من سنة نبينا صلى الله عليه وسلم؛ وجب بعده أن نلزمها ونعض عليها بالنواجذ، وأن نجتهد في العمل بها وفق ما نقدر ونستطيع .. ولا نتركها إلى غيرها .
ـ فقد قال الحق سبحانه وتعالى: “وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا” [الحشر7]، وقال: “وما كان لمومن ولا مومنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم” [الأحزاب36]، وقال: “يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله ورسوله إن كنتم تومنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تاويلا” [النساء59].
قال ميمون بن مهران: “الرد إلى الله: الرد إلى كتابه، والرد إلى رسوله: إذا كان حيا، فلما قبضه الله فالرد إلى سنته” جامع بيان العلم، ص431.
ـ وفي الحديث عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها الأعين ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله، إن هذه موعظة مودع فما تعهد إلينا؟ قال: “تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، ولا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، ومن يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي” (الاعتصام للشاطبي1/60).
ـ وفي لفظ: “عليكم بالسمع والطاعة وإن كان عبدا حبشيا، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهتدين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة ” (جامع بيان العلم وفضله/422).
وها نحن نرى ونعاين ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من الاختلاف الكثير الحاصل في الأمة والافتراق الواقع بين المسلمين، حيث تحزبوا وتفرقوا أحزابا وشيعا، يذيق بعضهم بأس بعض، ويسفك بعضه دم بعض…
فما النجاة؟
النجاة في اعتزال كل تلك الفرق والطوائف المختلفة والمتطاحنة، فلا يجعل المسلم نفسه عبدا خاضعا لأفكارها وآرائها، ولا يقيد نفسه بفرقة أو جماعة أو طريقة أو شيخ، بل يحرص أن يكون حرا مستقلا، غير خاضع إلا لله عز وجل، ولا تابع إلا للحق الذي عليه دليل من الكتاب والسنة.
كما جاء في حديث حذيفة رضي الله عنه أنه قال: “كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنتُ أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلتُ: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: “نعم”، فقال حذيفة: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: “نعم وفيه دخن” -أي ليس صافيا- قلتُ وما دخنُه يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: “قوم يستنون بغير سنتي، ويهتدون بغير هديي، تعرف منه وتنكر،” قال حذيفة: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: “نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها”. فقلت: يا رسول الله، صفهم لنا. قال: “نعم، قومٌ من جلدتنا ويتكلون بـألسنتنا”، قلت: يا رسول الله، فما ترى إن أدركني ذلك؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “تلزم جماعة المسلمين وإمامهم”. قال حذيفة: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:”فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك” (البخاي3606 ومسلم1847).
وإذا أراد المسلم أن يتعلم شيئا من دينه فليسأل العلماء الموثوق بهم من أهل السنة والجماعة، ممن يفتونه بالدليل من كتاب الله وسنة رسوله وما أثر عن السلف الصالح الذين هم خير قرون هذه الأمة.
وليجعل منهجه التمسك بالسنة والعض بالنواجذ على ما جاء من خبر وأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يعدل عنه إلى غيره .
خطر العدول عن السنة
إن العدول عن السنة ضلال وهلاك، كما جاء في الحديث المتفق عليه عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة، فقال: “أيها الناس، إنكم محشورون إلى الله تعالى حفاة غرلا (كما بدأنا أول خلق نعيده، وعدا علينا إنا كنا فاعلين)؛ ألا وإن أول الخلائق يُكسى يوم القيامة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ألا وإنه سيُجاء برجال من أمتي، فيؤخذ بهم ذات الشمال -أي: إلى جهة النارـ، فأقول: يا رب أصحابي؟ فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح: {وكنتُ عليهم شهيدا ما دمتُ فيهم} إلى قوله: {العزيز الحكيم}، فيقال لي: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم” (صحيح رياض الصالحين، رقم162).
وفي رواية عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أنا فرطكم على الحوض، وليختلجن رجال دوني فأقول: يا رب أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول: سحقا لمن بدل بعدي” (البخاري6585 ومسلم2291).
فضل التمسك بالسنة
وأما التمسك بالسنة والعمل بها فهداية، روى الحاكم والدارقطني وصححه العلامة الألباني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “تركتُ فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي ولن يتفرقا حتر يردا علي الحوض”.
والتمسك بالسنة والعمل بها خير وبركة وفلاح في الدنيا والآخرة، ففي الحديث الذي رواه الطبراني في المعجم الكبير والأوسط وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة494، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن من ورائكم أيام الصبر، للمتمسك فيهن بما أنتم عليه أجر خمسين منكم “. قالوا: يا نبي الله، أو منهم؟ قال: “بل منكم”.
وفي صحيح البخاري 7280 عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى”. قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: “من أطاعني؛ دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى”.
حرص الصحابة على التمسك بالسنة
لقد كان صحابة نبينا صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم أشد الناس حرصا على التمسك بسنة النبي عليه الصلاة والسلام. ومنهم الصديق أبو بكر، فقد كان يقول: لست تاركا شيئا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملتُ به، إني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ” [الاعتصام للشاطبي]، ويقول: “أي أرض تُقلني وأي سماء تظلني إن قلت في آية من كتاب الله برأيي، أو بما لا أعلم” (إعلام الموقعين).
فوجب أن نحرص على التمسك بسنة نبينا صلى الله عليه وسلم وبسنة أصحابه من بعده؛ فإنه طريق النجاة والنجاح.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: “من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، فأولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قد اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم وإقامة دينه فاعرفوا لهم حقهم وتمسكوا بهديهم، فإنهم على الهدي المستقيم. (جامع بيان العلم وفضله).
قال الشيخ العثيمين رحمه الله: “فسنة النبي عليه الصلة والسلام هي سبيل النجاة لمن أراد الله نجاته من الخلافات والبدع، وهي ولله الحمد موجودة في كتب أهل العلم الذين ألفوا في السنة، مثل الصحيحين للبخاري مسلم والسنن والمسانيد وغيرها مما ألفه أهل العلم وحفظوا به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. (شرح رياض الصالحين1/450).
ثالثا: الاجتهاد في إحياء السنة وإظهارها
إن كثيرا من السنن أميتت وهجرها الناس وغطتها غبار البدع الكثيرة والمتراكمة… ومن رحمة الله تعالى أنه يبعث من حين لآخر من عباده العلماء العاملين المصلحين المجددين من يجدد للأمة دينها ويذكرها بسنة نبيها ويزيل عنها شوائب البدع والمحدثات التي تشوه صورة الدين وتعسره، ففي الحديث الذي رواه أبوداود والحاكم والبيهقي وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها”.
وواجبنا نحن أن نُسهم قدر المستطاع في هذا الخير، فإذا تعلمنا سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم وجدنا أي فرصة أو مناسبة لنعلمها الناس ونعلنها ونُظهرها؛ فعلنا .
وينبغي أن نراعي في ذلك شرطين مهمين :
الأول: العلم، أي أن يكون عندنا علم بتلك السنة.. ولا يشترط التبحر في العلم . قال الشيخ العثيمين :”ولكن لا يمكن أن تتم الدعوة إلا بعلم الإنسان بما يدعو إليه ؛ لأن الجاهل قد يدعو إلى شيء يظنه حقا وهو باطل، وقد ينهى عن شيء يظنه باطلا وهو حق، فلابد من العلم أولا، فيتعلم الإنسانُ ما يدعو إليه.
وسواء كان عالما متبحرا فاهما في جميع أبواب العلم، أو كان عالما في نفس المسألة التي يدعو إليها، يعني ليس بشرط أن يكون الإنسان عالما متبحرا في كل شيء…” (شرح رياض الصالحين1/482).
الثاني: التزام الحكمة، وهي: “أن تضع الأشياء في مواضعها، وتنزل الناس في منازلها، لا تخاطب الناس بخطاب واحد، ولا تدعوهم بكيفية واحدة، بل اجعل لكل إنسان ما يليق به. فلابد أن يكون الإنسان على علم بحال من يدعوه؛ لأن المدعو له حالات: إما أن يكون جاهلا أو معاندا مستكبرا، أو يكون قابلا للحق ولكنه خفي عليه مجتهدا متأولا، فلكل إنسان ما يليق به. (شرح رياض الصالحين1/483).
ـ كما يجب أيضا التزام الرفق واللين والأسلوب الحسن المقبول بين الناس، والحرص على التبشير دون التنفير، والحذر من مخاطبة الناس بخشونة وغلظة كما يفعل بعض المتعجلين. فقد قال الله تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} (النحل125)، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (آل عمران159)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا” (اللؤلؤ والمرجان1131).
فضل إحياء سنة النبي صلى الله عليه وسلم والدلالة عليها
إن في إحياء سنة النبي صلى الله عليه وسلم والدلالة عليها أجر عظيم، وقد جاء في الحديث أن من غرس شجرة فأكل منها إنسان أو طير كانت له صدقة؛ فكيف بن غرس سنة وأحياها وأظهرها في الناس فعملوا بها؟ …
فقد قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: “لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم” (البخاري3009 ومسلم2406).
وقال عليه الصلاة والسلام: “من دعا إلى هدى فاتُبع عليه، كان له مثل أجر من اتبعه إلى عمله، إلى يوم القيامة” (مسلم2674).
وقال: “من دل على خير فله مثل أجر فاعله” (مسلم1893).
وقال: “من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا”. (مسلم2674).
خلاصة القول: أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم نور يضيء كل أرجاء الحياة ودروبها ومسالكها، فمن تعلم شيئا منها وأحياها في نفسه، وتمسك بها، وعمل بها، وأحياها في الناس؛ يكون قد حاز خيري الدنيا والآخرة، ومن أعرض عنها فهو في ظلمات بعضها فوق بعض، وسائر في خسران مبين.