الاستغراب في المغرب في مرحلة ما قبل الاستعمار* وضعية المغرب في القرن التاسع عشر الميلادي -الجزء الأول- د. عبد الله الشارف كلية أصول الدين/ كلية الآداب تطوان

شهد هذا القرن بالنسبة للمغرب أحداثا سياسية واجتماعية متعددة كان لها تأثير عميق في المجتمع المغربي بكل فئاته الاجتماعية، وبكل مكوناته الثقافية والتاريخية. ولعل هناك ثلاث حوادث كان لها الأثر البليغ في كيان هذا المجتمع، حيث أحدثت فيه هزات عنيفة وشروخا عميقة، تلك الحوادث هي: احتلال الجزائر من قبل فرنسا سنة 1830م، ثم هزيمة المغرب في موقعة إيسلي سنة 1844م، وأخيرا هزيمة حرب تطوان سنة 1860م.

فاستيلاء الفرنسيين على الجزائر كان له انعكاسات أليمة في نفوس المغاربة الذين أحسوا بأنهم مهددون ومستهدفون من طرف هذا العدو الغاشم، وبالتالي بـادروا بتلبية دعوة الجهاد والتحق ألف من المغاربة بجيش الأمير عبد القادر يدافعون عن الإسلام والمسلمين.
وفي سنة 1844م انهزم جيش المغرب البالغ عدده ثلاثين ألف جندي في موقعة إيسلي، أمام جيش فرنسا المنظم الذي لم يكن عدد جنـوده يتعدى ثمانية آلاف جندي حسب ما يذكره المؤرخون[1].
ويرجع سبب الهزيمة إلى أن الجيش المغربي الذي تدخل لنصرة الجزائر لم يكن يأخذ بالأنظمة الحديثة والتسيير الحربي الدقيق «حتى أن قائد الجيش الفرنسي المارشال (بيجو) لما أشرف على الجيش من علٍ قال: ليس هذا جندا، إنما هو غوغاء من كثرة ما كان عليه من الفوضى والضعف»[2].
ولم يكد العقد الثاني ينصرم بعد كارثة إيسلي حتى مني الجيش المغربي بهزيمة أخرى إزاء نظيره الإسباني، الذي دخل مدينة تطوان واحتلها سنة 1860م.
لقد نتج عن هـذه الكوارث الثلاث أمـران رئيسيان؛ أولهما:
– الدعوة إلى إصلاح وإعادة بناء المجتمع اجتماعيا وثقافيا وعسكريا.
– وثانيهما ازديـاد نفـوذ الحكومات الأوروبية في المغرب وتوسيع دائرة التدخل الأجنبي في شؤون التجارة والاقتصاد.
فبالنسبة للأمـر الأول «يمكن القول بأن إصلاح الجيش المغربي كان أول إصلاح تناول جهاز الدولة المغربية، فبعد موقعة إيسلي: بدأت المحاولات الأولى لتجديد الجيش المغربي أيام السلطان عبد الرحمان، حيث نظمت في عهده بعض فرق من الجيش على نسق نظام الجيش التركي الحديث، وقد أسندت قيادة هذه الفرق لضابط مسلم يسمى علي التونسي. وعلى ما يقول البعـض؛ فقد كان عدد هذا الجيش النظامي يبلغ ستة عشر ألفا، وكثيرا ما كان يطلق عليه اسم “العسكر” أو “النظام”»[3].
وتابع السلطان الحسن الأول طريق الإصلاح العسكري؛ فاهتم بإحياء الأسطول البحري واشترى بعض البواخر الحربية من أوربا، كما انتشرت المعامل الحربية خصوصا في فاس ومراكش لصنع البارود وبعض أدوات الحرب المستعملة آنذاك.
ومن الناحية الاجتماعية والثقافيـة، كان للتيار السلفي الناشئ دور أساسي في إحداث نوع من اليقظة الفكرية والاجتماعية في المجتمع المغربي. فقد زار الشرق، خلال القرنين الثامن والتاسع عشر الميلاديين، كثير من المغاربة بهدف الاطلاع على روح النهضة والاستماع إلى دروس ومحاضرات علماء الإصلاح ورواد السلفية.
وعند رجوعهم إلى المغرب حملوا معهم بذور النهضة واليقظة، وأفكار محمد بن عبد الوهاب ورشيد رضا وغيرهم. هذه الروافد المشرقية التي انصهرت في بوتقة الثقافة المغربية الإسلامية، شكلت المحرك الأساسي لقيام حركة اجتماعية وثقافية، أخذت على عاتقها إنقاذ البلاد من الضعف والانحطاط ومن أطماع الأجانب.
«كان القرن 13هـ/19م يمثل ذورة النشاط الطرقي وفشـو البدع التي وضعت بشأنها عشرات المذكرات والمصنفات. وهذه الفترة بالذات تمثل أوج الانبعاث السلفي في جل العالم الإسلامي، كرد فعل ضد اكتساح الغزو الثقافي الغربي وأفكار التحرر الأوربية والتي هي استجابة للسياسة العلمانية.
والحق أن الدعوة السلفية قد وجدت بالمغرب جذورها خلال القرن 12هـ/18م على يد محمد الثالث بعد أن أصبحت بعض الزوايا ذات قوة سياسية ومادية، واستقطبت عشرات الألوف من الأتباع، لكن إذا كانت تهمتها الرسمية خلال القرن 12هـ/18م في حمايتها لمن تتابعهم الدولة في التزامات مالية، فإن انتشار البدع في الأوساط الشعبية، وما أخذ على بعض الطرق من انحرافات عن السنة، أصبح في القرن 13هـ/م19 موضع معركة قلمية بين خصوم الطرق وأرباب الزوايا وأنصارهم، كما أن المخزن وجد نقطة ضعف لدى هذه الطرق لردعها تارة بالقوة وتارة بالعمل على إسقاطها دينيا في أعين الفئات الشعبية، لا سيما بعد أن أصبحت تعارض سياسة المخزن أو تتجاوز ميدان التحرك الدبلوماسي إلى التحرك الشعبي المسلح ضد التدخل الأجنبي»[4].
وقد ظهر في القرن الثالث عشر كثير من المصلحين المغاربة الذين كرسوا حياتهم لإرساء دعائم اليقظة الدينية والنهضة الاجتماعية، متأسين في ذلك بنظرائهم المشارقة.
ومن بين هؤلاء يذكر محمد كنون المتوفى سنة 1884م، والذي يعتبره البعض من مجددي القرن الثالث عشر الهجري حيث عرف بقوة اجتهاده وجرأته فيما يتعلق بالدفاع عن الحق وتغيير المنكر حتى أنه اضطهد وسجن بسبب ذلك.
ومنهم الشيخ العالم محمد بن عبد الكبير الكتاني الذي كان يعلن عن أفكاره ومبادئه في شجاعة ناذرة، سواء في مؤلفاته أو خلال دروسه، وكان ينعى على المغاربة تقليدهم لعادات الأوربيين وإهمالهم لشريعة الإسلام والأخلاق الدينية.
ومن ناحية أخرى رافق يقظة القرن التاسع عشر الميلادي تجديد في ميدان التعليم والتدريس، ذلك أن أخبار تقدم دول أوربـا وبعض دول الشرق في مجال المعرفة، حفزت المسؤولين المغاربة للعمل على إحياء دروس العلم والأخذ بأساليب المعرفة الحديثة؛ «وهذه حركة انبعاثية كان من أهدافها إنعاش دراسة العلوم الرياضية والعسكرية، وتقريبها من الدراسات الحديثة. وقد ابتدأت هذه الحركة من أيام السلطان عبد الرحمن بن هشام، ثم استمرت على عـهد ثلاثة ملوك من بعده: محمد الرابع، والحسن الأول، وصدرا من أيام المولى عبد العزيز… وقد تمثلت هذه اليقظة في:
1- إحداث دروس للرياضيات والفلك.
2- مدرسة المهندسين بفاس.
3- المدرسة الحسنية بطنجة.
4- دراسة بعض الفنون العسكرية.
5- بعثات إلى الشرق وأوربا.
وقد كان إرسال بعثات مغربية إلى أوروبا من مميزات عصر الحسن الأول، وإذا استثنينا هـذه الميزة، فإن أكثر المظاهر التعليمية الأخـرى لهذه اليقظة، يعود الفضل الأكبر فيها إلى محمد الرابع، أيـام ولايته للعهد ثم بعد جلوسه على عرش المغرب، حيث اكتست هذه الفترة بالذات طابعا علميا أكثر، وفي هذا الصدد يقول أحمد بن المواز في: (تاريخ الدولة العلوية) عن محمد الرابع: «وأحيى ما اندثر بالمغرب من العلوم: كالحساب، والتعـديل والهندسة والنجوم، واخترع العسكر النظامي السعيد»[5].
وتميز هذا القرن أيضا بمسألة إرسال البعثات الطلابية إلى الغرب خصوصا في عهد محمد الرابع والحسن الأول. وكانت غاية بعثتهم هي اكتساب المعارف العلمية الحديثة كالطب والهندسة والفلك والصناعة الآلية والخبرة العسكرية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*- من كتاب : الاستغراب في الفكر المغربي المعاصر.
[1]ـ انظر محمد المنوني: مظاهر يقظة المغرب الحديث، ص:17.
[2] ـ محمد المنوني: مظاهر يقظة المغرب الحديث، ص:17.
[3]ـ المرجع نفسه ص:76.
[4] ـ إبراهيم حركات: التيارات السياسية والفكرية بالمغرب خلال قرنين ونصف خلال الحماية، ص:67ـ68.
[5]ـ محمد المنوني: مظاهر يقظة المغرب الحديث، ص:135ـ136.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *