أصل.. يغير قناعاتنا نبيل غزال

من أصول الإيمان الكبرى وأركانه العظمى الإيمان باليوم الآخر؛ والتصديق الجازم بهذا اليوم العظيم؛ وبجميع ما ورد بشأنه من تفاصيل وردت في الكتاب والسنة، والعمل بموجب ذلك كله.
فقد ورد لهذا اليوم العظيم أكثر من ثمانين اسما؛ كما حكى ذلك العلامة ابن كثير رحمه الله تعالى في البداية والنهاية؛ وكثرة أسماء الشيء -كما هو معلوم في لغة العرب- دليل على عظمته؛ ولا تكاد عين التالي لكتاب الله تعالى تخطئ أن تقع على ذكر هذا اليوم في صفحة من صفحات المصحف..
حتى أن الله تعالى قد ذكر غير مرة هذا اليوم المجموع له الناس مقرونا باسمه الكريم فقال سبحانه: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}، وقال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}..
وكم ربطت نصوص الوحيين بين هذه العقيدة وسلوك المكلف اتجاه نفسه وإخوانه ومجتمعه، فقال سبحانه: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} وقال تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ}.
وقال صلى الله عليه وسلم: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه” رواه البخاري ومسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر: فلا يقعد على مائدة يشرب عليها الخمر” رواه أحمد في المسند وصححه العلامة الألباني في إرواء الغليل (7/6).
ولا شك أن الإيمان بهذا الركن؛ واستحضار الإنسان أنه سيقف يوما ما بين يدي الله تعالى؛ فيسأله عما قدم وأخر؛ تغير عقيدته وفكره وسلوكه، وهذا هو الفيصل بين المؤمن وغير المؤمن.
فالمؤمن -فعلا- يمنعه إيمانه بالمعاد؛ واستحضاره لأهوال يوم القيامة ومشاهدها من التجرؤ على محارم الله وتعدي حدوده؛ والخروج عن الأمر والنهي؛ وغير المؤمن يعيش حياته -للأسف الشديد- هملا؛ في غفلة عن هذه الحقائق كلها أو بعضها؛ لا يتوخى فيما يصنع خشية العاقبة وطلب الخير، غايته في الحياة الدنيا إشباع شهواته وملذاته؛ لا يعبأ بأمر ولا نهي؛ ولا حلال ولا حرام، ولا سنة ولا بدعة.. كل ما يهمه هو إشباع شهواته؛ وامتثال ما تمليه عليه أهواؤه أو ما استقر في قلبه من نظريات وفلسفات مادية؛ مخرجها عقول بشر مثله تحكمهم مرجعيات فلسفية معينة ونظرة مغايرة تماما لنظرة المسلمين للكون والحياة والإنسان.
فكم ذكّرنا الله تعالى وقوفنا بين يديه؛ ونهانا عن اتباع سبل الشيطان وغوايته؛ وحذرنا من أعداء النبيئين والوحي؛ الذين لا يؤمنون بالآخرة ولا يعملون لها ويكذبون بوجودها ويحاربون المصدقين بها؛ فقال تعالى في سورة الأنعام: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ، وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ} الأنعام.
قال العلامة الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير: (والذين لا يؤمنون بالآخرة.. لا يتوخون فيما يصنعون خشية العاقبة وطلب الخير، بل يتبعون أهواءهم وما يزين لهم من شهواتهم، معرضين عما في خلال ذلك من المفاسد والكفر؛ إذ لا يترقبون جزاء عن الخير والشر، فلذلك تصغى عقولهم إلى غرور الشياطين، ولا تصغى إلى دعوة النبيء صلى الله عليه وسلم والصالحين) اهـ.
وقال السعدي رحمه الله: قال تعالى: (وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ) أي: ولتميل إلى ذلك الكلام المزخرف (أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ) لأن عدم إيمانهم باليوم الآخر وعدم عقولهم النافعة يحملهم على ذلك، (وَلِيَرْضَوْهُ) بعد أن يصغوا إليه، فيصغون إليه أولا؛ فإذا مالوا إليه ورأوا تلك العبارات المستحسنة رضوه، وزين في قلوبهم، وصار عقيدة راسخة، وصفة لازمة، ثم ينتج من ذلك، أن يقترفوا من الأعمال والأقوال ما هم مقترفون، أي: يأتون من الكذب بالقول والفعل، ما هو من لوازم تلك العقائد القبيحة، فهذه حال المغترين بشياطين الإنس والجن، المستجيبين لدعوتهم.
وأما أهل الإيمان بالآخرة، وأولو العقول الوافية والألباب الرزينة، فإنهم لا يغترون بتلك العبارات، ولا تخلبهم تلك التمويهات، بل همتهم مصروفة إلى معرفة الحقائق، فينظرون إلى المعاني التي يدعو إليها الدعاة، فإن كانت حقا قبلوها، وانقادوا لها، ولو كسيت عبارات ردية، وألفاظا غير وافية، وإن كانت باطلا ردوها على من قالها، كائنا من كان، ولو ألبست من العبارات المستحسنة، ما هو أرق من الحرير. اهـ.
فيوم القيامة هو يوم يحشر فيه الناس لرب العالمين؛ ويفصل فيه بين الخلائق، فيجزى المحسنون إحسانا، والمسيؤون بما عملوا، وهذه عقيدة راسخة لدى كل فرد مسلم لا تتزحزح ولا تتغير ولا تتبدل، ومن خلالها وبقدر استحضارها يقبل العبد على ربه؛ فيمتثل أمره ويجتنب نهيه؛ ويعرض عمن تنكب طريق دعوة الحق وحاربها، ولو آمن أعداء الوحي والرافضون للشريعة باليوم الآخر لرجعوا عن غيهم وتخلوا عن كثير من قناعاتهم وأطروحاتهم؛ وغيروا سلوكهم ومنهجهم.
﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ﴾ (المؤمنون: 115).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *