المؤسسات التعليمية داخل المنظومة السنيـة أية مسؤولية؟ وأية فعالية؟ وهل من مشروع؟ أبو عبد الرحمن ذو الفقار

الهيآت التعليمية وأزمة الفراغ الديني داخل المجتمعات الإسلامية السنية

..شتان بين أن يكون التسنن منهجا عاما يهيمن على نظام حياة المجتمع ويطبعه بطابع سني، وبين أن يكون التسنن مجرد سلوك فردي اختاره المرء تبعا لقناعته الشخصية.
إن الشواهد للأسف الشديد، تكشف بنفسها أن هيآتنا التعليمية تخطوا نحو قبلة علمنة المجتمع ضمن مخطط علمنة التعليم، عن طريق مناهج ليس لها طابع يميزها.
ولنتساءل هل لهيآتنا التعليمية داخل مجتمعاتنا السنية من طابع يميزها؟
هل هي هيآت تعليمة سنية؟
وبتعبير آخر: ما هو نوع المجتمع الذي تعمل هيآتنا التعليمية على إنشائه؟
ودون الإجابة عن مثل هذه الأسئلة، تبقى كل المحاولات في إصلاح الفروع ومناقشة التفصيلات جزئية جزئية، قبل تحديد الأصول وإدراك الكليات، هي محاولات محكوم عليها من بدايتها بالفشل.
تعد المؤسسات التعليمية داخل المجتمعات السنية خاصة، وغيرها من الأمم بشكل عام؛ أهم المؤسسات إسهاما في إعداد الأجيال المتعلمة، وصمام أمان هويتها وثقافاتها، والمصب الذي يمد المجتمع الواحد عبر الروافد والقنوات العلمية بأطره وكفاءاته، وبالتالي فأي ضعف أو خلل أو خصاص أو انحراف في مناهج تعليم أي أمة، هو ضعف وخلل وخصاص وانحراف في أخص خصائصها.
وإن ما تعانيه مجتمعاتنا المسلمة السنية -على وجه الخصوص- نتيجة الضعف الإيماني والخواء الروحي والأمية الشرعية، والمتمثل بوضوح في مظاهر انحطاط غالب أبنائها أخلاقيا، وفساد تدينهم، وذلك إما بعدم انعكاس مبادئ بعضهم وتصوراتهم واعتقاداتهم على واقع حياتهم وسلوكياتهم، حيث تجد المرء منهم يصلي صلواته الخمس، ويصوم رمضان، لكن في حياته المهنية والتجارية والإدارية وفي معاملاته الخاصة والعامة، يغش ويبتز ويكذب ويرشي ويرتشي ويزني ويقامر،….، أو المتمثل في هجر بعضهم الآخر المساجد، وتركهم الصلوات، وتضييعهم للفرائض والواجبات، دون وعي بغاية وجودهم، ولا سر حياتهم، ولا حقيقة تاريخ أمتهم، ولا قيمة دينهم، ولا مقتضى وطنيتهم. كما أنهم يعانون من قلة المبالاة، وغياب الرؤية الواضحة، والسير إلى غير هدف. نمط استهلاكي بامتياز؛ يأكل ليعيش، ويعيش ليأكل. ناهيك عن استسلامه للشهوات، وتعاطيه المخدرات، ومعاقرته الخمور،…، وإن مجتمعات ينزل أبناؤها إلى هذا الدرك أو ذاك من العصيان واللاأخلاق؛ فإنها مجتمعات يدل واقعها على أن دينها الرسمي ومذهبها السني لا تأثير لهما على سير حركة حياة أفرادها.
وهذا إن كان يكشف عن شيء فهو يكشف عن حقيقة الأزمة التي تعانيها الأمة الإسلامية السنية، ويجلي الظلام عن طبيعة قضيتها الأساسية؛ إنها قضية تغيير منار أمة، وأزمة هوية، وطمس أعلامها. وهو بالتتابع يكشف عن ضعف مفعول مناهجها التربوية والتعليمية في تأسيس قناعات عقدية، وعجزها وعدم قدرتها على ترسيخ ثوابت شرعية، وإخفاقها في تعبئة أبناء مجتمعها بما يقوي مناعتهم الفكرية ويبني ثقافتهم، ويحفظ هويتهم، ويحمي فكرهم من كل ما هو دخيل، ويرقى بهم إلى مستوى الحياة في حدود إسلام مجتمعهم وسنية بلدهم. لاسيما أن زماننا هذا كثرت فيه تيارات خطيرة الانحراف؛ من علمانية وشيوعية واشتراكية وليبرالية ورأسمالية، بل قل إن شئت وبهيمية، كما تطورت فيه وسائل الترويج. وإذا ما لم يكن المسلم مسلحا بسلاح العقيدة الصحيحة، فإنه بلا شك تجرفه هذه التيارات الضالة المضلة. والذي يكرس هذا الوضع بشكل واضح ضعف المواد الدينية في برامجها التعليمية من حيث المضمون والفعالية.
والذي يزيد الأمر استفحالا، غياب الثقافة الدينية بل إقصاؤها الكلي من الكليات والجامعات، خاصة في الشُّعَبِ العلمية والأدبية. وكأنه يتعارض أن يكون الطالب يدرس الطب أو الهندسة أو الاقتصاد أو الفيزياء أو القانون أو الأدب بكل فروعه،..، ويدرس مع تخصصه في أحد هذه العلوم سيرة نبيه عليه الصلاة والسلام، وما يجب اعتقاده فيه وفي أصحابه رضوان الله عليهم وبيان فضائلهم ومناقبهم وما تقتضيه محبتهم، وتاريخ أمجاد أمته الإسلامية، وما يلزم أن يكون معلوما عنده من دينه بالضرورة!
نجاح الأمم في امتلاكها مناهج تعليم تنشئ جيلا قادرا على تبني حضارتها
إن من أهم مقومات نجاح الأمم، أن تكون مؤسساتها، خاصة التعليمية منها تعمل في إطار الحفاظ على مبادئ منظومتها الفكرية. وهذا الأمر يستلزم ولابد أن تكون مؤسساتنا التعليمية في منظومة مجتمعاتنا السنية؛ مؤسسات لها خطتها؛ لها منهاجها؛ لها برنامجها التعليمي؛ لها أبعادها مبادئها وسياستها في مجالات حياتها ودنياها؛ قائمة على أساس ومقتضيات سنية بلدانها.

وإن مجتمعا سنيا لحري به أن تكون له مناهج تعليمية تجعل حياة أفراده على اختلاف تخصصاتهم العلمية، حياة منضبطة بأحكام سنية، وتجعل واقعهم واقعا سنيا، عن طريق مناهج تعليمية تسهم في إنتاج الوزير السني، ورجل الأمن السني، والجندي السني، والطبيب السني، والمهندس السني، ورجل التعليم السني، والإعلامي السني، والأديب السني، والحرفي السني، والتاجر السني، ورجل الأعمال السني،….، وباختصار كبير مناهج تعليمية تسهم في إنتاج المواطن السني، والمواطنة السنية، والفرد السني، والأسرة السنية. حتى تكون السنة هي أظهر الخصائص التي تميز المجتمع وتفرده عن غيره من المجتمعات؛ حكومته سنية، ومدرسته سنية، وإذاعته سنية، وإعلامه سني، ومؤسساته الرسمية سنية،…، وحين تنبثق تصورات وقيم المجتمع من أصول سنية يتبعها أفراده ومؤسساته في تعاملهما التعبدي، وفي تعاملهما مع الواقع، وفي تعاملهما السياسي، وفي تعاملهما الاقتصادي، وفي تعاملهما مع العالم الخارجي؛ يكون حينها مجتمعا سنيا. وإلا لما أمكن التمييز بين هذا المجتمع كونه مجتمعا سنيا، وآخر كونه مجتمعا علمانيا، وثالث كونه مجتمعا شيوعيا إلى غير ذلك من أنواع المجتمعات.
وهذا الأمر يستلزم حتما من المهتمين إدخال العنصر الإسلامي في كل شعب التعليم؛ كإدخال نظام الاقتصاد الإسلامي في تعليم الاقتصاد، وإدخال مبادئ القانون الإسلامي في تعليم القانون، وإدخال حقائق التاريخ الإسلامي في تعليم التاريخ، وهكذا في كل علم من العلوم، وفي كل شعبة من الشعب.
إنه شتان بين أن يكون التسنن منهجا عاما يهيمن على نظام حياة المجتمع ويطبعه بطابع سني، وبين أن يكون التسنن مجرد سلوك فردي اختاره المرء تبعا لقناعته الشخصية.
إن الشواهد للأسف الشديد، تكشف بنفسها أن هيآتنا التعليمية تخطوا نحو قبلة علمنة المجتمع ضمن مخطط علمنة التعليم، عن طريق مناهج ليس لها طابع يميزها.
ولنتساءل هل لهيآتنا التعليمية داخل مجتمعاتنا السنية من طابع يميزها؟
هل هي هيآت تعليمة سنية؟
وبتعبير آخر: ما هو نوع المجتمع الذي تعمل هيآتنا التعليمية على إنشائه؟
ودون الإجابة عن مثل هذه الأسئلة، تبقى كل المحاولات في إصلاح الفروع ومناقشة التفصيلات جزئية جزئية، قبل تحديد الأصول وإدراك الكليات، هي محاولات محكوم عليها من بدايتها بالفشل. ألم تروا إخفاق الدولة الأمريكة وما تحملته في أربعة عشر عاما من خسائر لمنع بيع الخمور بموجب قانون أصدرته حكومتها في ما بين سنة 1920م و1933م. بينما امتنعت أمة بكاملها بعد ما كانت في ما قبل إسلامها أكثر حبا للخمر من الشعب الأمريكي، بمجرد قول نبيها عليه الصلاة والسلام، وقبل أن يسكن صوته؛ أن يا قوم لقد حرم ربكم عليكم الخمر. وقس على ذلك كل المعضلات التي نعاني من آثارها في مجتمعاتنا السنية، كحرب الطرقات، وانتشار الزنا والبغاء واللواط والقتل والقمار، وجرثومة الارتشاء التي انتشرت في كل القطاعات الخاص منها و العمومي، لا فرق فيها بين أمي ومتعلم، حتى قطاع الصحة الذي هو إنساني بامتياز لم يسلم من الإصابة بهذه الجرثومة.
مما ينبغي بل يجب إدراكه أن صلاح المجتمع من صلاح الأفراد، وصلاح الأفراد من صلاح مناهج التعليم، وإن مؤسسات تعليمية في مجتمعات سنية، لها دينها؛ ولها رسالتها؛ ولها عقائدها؛ ولها تاريخها؛ تعتمد في تربية وتعليم أبنائها وتكوين نشئها على تفريغ برامجها من كل نفس إيماني، مع استيراد مناهج وبرامج غيرها؛ هي مؤسسات لا يمكنها أن ترقى بأبناء أمتها إلى منازل الطهر والنقاء. وإن مناهج هذا حالها وتلك آثارها هي أضعف من أن تنشئ جيلا يتبنى حضارة أو يصنع مجدا أو يحقق نصرا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *