قراءة في كتاب: (فنّ الحياة) لسلامة موسى ربيع السملالي

اختلافُنا مع بعض المؤلّفين والمفكرين لا يمنعنا من القراءة لكتبهم والاستفادة من تجاربهم وعلومهم وأدبهم، لأنّ الحقَّ ضالّةُ المؤمن، والحكمة قد تؤخذ من أفواه السّفهاء! وقد علمتم حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم حين قال لأبي هريرة إشارةً إلى إبليس: (صدقك وهو كذوب)!

لذلك أجدني مطمئنًا حين أمدحُ بعضَ كتب المنحرفين الضّالين الذين تنكّبُوا صراطَ الحق، واتّبعوا أهواءَهم على غير هدى من الله!

ومن هؤلاء (سلامة موسى) هذا الرجل المصري المسيحي الذي كان مغرمًا بكل ما لدى الغرب، معرضا عن كل ما يمتُّ للأمة الإسلامية بسبب! ومع ذلك فإن كتابه (فنُّ الحياة) قد أجاد في كثير من مقالاته، وهي ممتازة في العموم لمن كان ينشدُ حياة مطمئنة وسعادة دنيوية بطريقة سهلة ميسورة في غير تعقيد ولا إسراف!

نعم تأثره بالاشتراكية والدعوة إلى تبنيها واضح في الكتاب، وقد صرح في ص ٦٤ قائلا: (يجب أن نعيشَ في نظام اشتراكي)!  وهذا ليس مُسوِّغًا لطرح بقية أفكاره التي وافق فيها الصواب!

وقد ركّز في كتابه عن دور القراءة وعادتها في تقدم الشعوب وحضارتها ومدنيتها، كما أكد على أنّ الإنسان بدون قراءة ووعي لا فرق بينه وبين الحيوان (البيولوجي) الذي لا هم له في الحياة إلا الأكل والشرب والتناسل!

يقول في ص 78: إنَّ القراءة وحدَها تجعلُ الحياة فنيةً في الكثير من معانيها!

وفي ص 110 يقولُ: فالرّجلُ الذي تعوّدَ -مثلا- القراءة واقتناء الكتب، ومُداومة القراءة للجريدة والمجلة، إنّما يتمتّعُ بكلّ هذه الممارسات، لكنّه زيادة على ذلك يتهيّأ بها لشيخوخةٍ يقظةٍ بعيدةٍ عن السأم والتبلّد.

وقد خصّص مقالة كاملة للحديث عن (عادة القراءة) يُستحسنُ الرّجوع إليها لنفاستها.

ويقول في المقدمة ص 9 : (وليس هناك شك أن غاية الحياة أن نحيا الحياة على مستواها السامي، ومعنى هذا الكلام هو أن نعيش بما لدينا من كفاءات بشرية تسمو على كفاءات الحيوان، أي يجب أن نعيش بالوجدان والتعقل، وليس بالغريزة والعاطفة. وفن الحياة هو في النهاية الارتفاع بكفاءاتنا الموروثة إلى ما كسبناه واقتنيناه من التراث الاجتماعي الثّقافي).

وقد عالج موضوعات هذا الكتاب من جملة وجهات فلسفية وسيكولوجية واجتماعية!

في مقالة تحدث عن الاقتناء وجري الناس وراء المطامع وكأنهم خالدون، كانت جميلة وموفقة أحسن فيها غاية الإحسان، يقول في خاتمتها: وأسوأ ما في الحياة التي نعيشها ونحن نعدو وراء المطامع وكأنّنا نجري في سباق أننا لا نعرف ما نقتني ولمن نقتني، ثم هذا العَدْو في هذا السباق لا يتيح لنا فرصة الوقوف كي نتأمل ونفكر . والواقع أن غريزة الاقتناء تدفعنا مسخرين، فلا يلتمع لنا ذكاء، ولا يتردد في رؤوسنا خاطر، ولا نتساءل لماذا كل هذا!

وضرب قبل ذلك مثلا رائعا معبّرا يروقني أن أسجله هنا: ‏كلنا نذكر (ديوجينيس) الإغريقي الذي لقيه الإسكندرُ المقدوني وسأله عما يستطيع أن يؤديه له من مساعدة، فأجاب بأنّ كل ما يطلبه إنّما هو أن يتنحى عنه حتى لا يمنع أشعة الشمس عن جسمه!

وكذلك أطال النّفَسَ في الحديث عن العادات السّيئة وشرح بطريقة جيدة كيف يمكن للمرء التّخلّص منها ..وتحدث عن المرأة وعن الزواج وعن العائلة والمجتمع وأسهبَ في الحديث عن الغريزة والعقل والعاطفة ..وعن (البيت التّحفة) الذي تصبو إليه النفوس وتميل إليه الأفئدة، وقد استحسنتُ هذه المقالة كثيرًا، ولا أذكر أنّي قرأت مثلها أو قريبًا منها فيما قرأت من كتب تهتم بهذا الشأن، وقد ختمها بقوله:

ولكنَّ الشّيءَ المهمَّ الذي نقصدُ إليه أن يَجِدَ البيتُ منّا عناية فنيةً في تأثيثه، وأن ننظُرَ إليه كأنّه متحف عائلي يجمعُ طُرَفَ الجدود والأحفاد، فيتخذ بذلك سِمةً من سمات الخلود، فلا يكون مادّةً بل فكرة ..وكذلك مقالته عن الضيافة فقد أبدع فيها، واسمع إليه وهو يقول: والحياةُ السوية هي تلك التي تُصالح بين الكامنة والوجدان وتوفّقُ بينهما، ففي البيت نحن نختمر ونتهيّأ، وفي المجتمع نحن نكتشفُ ونباشر، ويجبُ لذلك أن نُعنى بالضّيافة والزّيارة، لأنّهما وسيلة الاتّصال بين البيت والمجتمع .. ويجب أن ندرسَ فنَّ الضّيافة باعتباره جزءًا خاصّا من الحياة العامّة …وفنُّ الضّيافة يقتضي العناية باختيار الأصدقاء، والمحافظة على صداقتهم، فإنَّ الاهتداءَ إلى صديق والاستمتاع بصداقته طوال العمر أو معظمه هما حظّ عظيم ومتعة سامية لمن يوفّقُ إليهما. والصداقة لا تنهضُ ولا تعيشُ إلاّ على أسس من العلاقات الروحية التي أثمرها اشتراك في الثّقافة أو الأهداف والـمُثُل الاجتماعية. وكذلك لم يفته الحديثُ عن الحبّ، وقد جعله من أعظم الاتجاهات باعتباره أسلوبًا للعيش، لأنَّ الحُبَّ كما يقولُ: يزيدُ الفهمَ، أي أنّنا نفهم أكثر عندما نُحبّ، ونفهم أقلّ أو أحيانًا لا نفهم عندما نكره. ثم قال: وهناك من يقولُ: إنَّ الحُبَّ يعمي، ولكنَّ الحقيقة أنّ الحبَّ يُبصّر ويُفتِّقُ الذِّهنَ للفهم والمعرفة، ولكنّ الكراهية والحقد والبغض والنّفور، كلُّ هذه تعمي وتغشي على عيوننا وعقولنا، فلا نبصر ولا نفهم. وكذلك تحدّث عن الحب في مقالة مستقلة بعد ذلك لكنه لم يكن موفّقًا كابن حزم في (الطّوق)، وابن القيّم في (الروضة)..

وكذلك تحدّث عن الهواية والفراغ وأسهب في الحديث عن مزايا الخلوة واعتزال النّاس بين الفينة والأخرى للتّأمل والنظر والتّفكير ومحاسبة النّفس ..والغريب أنّني لم أجد له حديثًا نبويّا ولا آية قرآنية ولا قول أحد الصّالحين من السّلف أو علماء الإسلام، فكلّ استشهاداته عن غاندي ونيتشه وجيته وغيرهم من الذين لا يؤمنون بالله، فسبحان من طمس على بصيرته وأعماه عن نور الوحي والسّنة. ولا غرو فهو مسيحي وليس بعد الكفر ذنب.

وهناك مقالات سيّئة للغاية فيها الفكر العلماني المنحرف المُنحطّ واضح وضوح الشمس في واضحة النهار، كمقالته التي بعنوان (مجتمعنا الانفصالي الحاضر) فهذه المقالة دعا فيها إلى اختلاط الشباب والفتيات وزعم أنّ منع الاختلاط يُعقّبُ آثارًا من الأمراض النّفسية يعرفها الدّارسون لهذا الموضوع ..وقال: ونحن الرّجال نحتاجُ على الدّوام إلى الاختلاط بالجنس الآخر منذ أن نولد إلى أن نموت، لأنّ أقلَّ ما يُقال في تبرير هذا الاختلاط أنّه هو الوضع الطبيعي الذي يجبُ ألا يناقضه وضع اجتماعي. (فتأمل)..

وكذلك مقالته (البيت معهد حرّ) فقد أسرفَ فيها غاية الإسراف ودعا إلى حرية قبيحة مستوحاة من المجتمع الأوربيّ ..وخلط فيها الحقّ بالباطل ..يقول في خاتمتها متحدّثًا عن المجتمع الغربي: وإنّ الاختلاط بين الجنسين لا ينقطع منذ الطّفولة إلى الشيخوخة. وهذا الاختلاط يُدرّبُ الفتى والفتاة على الرّشاقة، ويوجّه الغرائزَ الجنسيةَ وجهتها السّوية، ويمنع الشذوذات البشعة التي تفشو في المجتمعات الانفصالية في الأمم الشرقية، فالحياة هناك أملأ وأمتع، والشخصية أتمّ وأينع. اهـ ..(أرأيتَ).

والخلاصة: أنّ هذا الكتاب مع ما فيه من كوارث وطوامّ لا يمكن لقارئه إلا أن يخرجَ مثخنًا بالفوائد والأفكار الجميلة التي لا تتنافى مع ديننا الحنيف!

ومن أراد معرفة المزيد عن هذا الرّجل وفكره فليطالع ما كتبه الأستاذ الكبير محمود شاكر في كتابه الماتع (أباطيل وأسمار).

ودامت لكم المسرات..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *