وصل بنا الحديث إلى عرض بعض سبل مواجهة الانحراف الحداثي، وبدأتُ ذلك بمثال لمقابلة الباطل بالحق الذي لاقبل للقوم بمدافعته، وأتبع ذلك بما يأتي:
2 ـ كشف الشبهات
من أشنع الشبه التي وروجها الحداثيون في كتاباتهم، وأشدها قباحة، وصفهم الشريعة؛ أو “ثقافة الشرق” بأنها ثقافة كبت وحرمان؛ تحرم على أبنائها متع الحياة… بينما يصفون “ثقافة الغرب” الحداثية بأنها ثقافة تحرر إشباع لرغبات الجسد…
على هذه الشبهة أقام صاحب “الحي اللاتيني” روايته، وزعم أن كتّاب العربية يهملون هذه النواحي في كتاباتهم. يقول تعليقا على مسرحية هزلية في موضوع الخيانة الزوجية، وصفها هو نفسه بأنها لاأخلاقية (ص.85) (أليس أدباؤنا مقصرين في هذه الناحية؟ ألا تراهم يتفادون في آثارهم من إثارة كثير من المشكلات التي تمس حياتنا خشية من ثورة حماة التقاليد؟).
انطلقت من هذا المقطع وما يشبهه وسألت التلاميذ: أصحيح أن أدباءنا وعلماءنا مقصرون في تناول هذه الموضوعات؟ وهل يتفادون إثارة هذه المشكلات الخاصة فيما يكتبون؟
بنيت مع تلاميذي تصورا للقضية في أسئلة واحتمالات عقلية:
ــ فإما أن تكون دعوى كاتب الرواية صحيحة؛ يصدقها الواقع..
ــ وإما أن تكون الدعوى فاسدة يشهد واقع الحال ببطلانها..
وفي كلا الحالين -خاصة في حال نقض الدعوى- يلزم إثبات الأمر بالدعوى والبرهان.
هنا وجهت التلاميذ إلى البحث في تفسير ابن كثير عند قوله تعالى (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم واتقواالله) (البقرة:223) وفي نيتي أن أوقفهم على كلام ابن عباس وابن عمر وغيرهما من أصحاب النبي رضي الله عنهم في مدلولها وسبب نزولها. ثم أحضرت معى تفسير ابن كثير بعد ذلك وفتحت على الموضع المقصود. وقرأ التلاميذ من كلام ابن عباس في الموضوع وأنا أتابع فيهم ملامح العجب والدهَش.. فما توقعوا أن يجدوا مثل هذا الكلام في كتاب من كتب تفسير كلام الله تعالى، وعلى لسان حبر الأمة ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن تبينوا أن دعوى كاتب الرواية باطلة، وتأكيدا لهذه النتيجة وجهت عناية التلاميذ إلى البحث في كتاب الله، وفي كتب الفقه والحديث.. وفي أبواب الطهارة والنكاح.. عن نصوص مشابهة كمثل قوله سبحانه: (أُحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم) (البقرة: 187).
وكمثل قصة الشاب الذي أتى النبي صلى الله عليه وسلم يترخصه في الزنى، (السلسلة الصحيحة، العلامة الألباني، م1/ق2/ح370،ص712) ليروا كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينتهره، ولم ينكر سؤاله، بل حاوره وأشعره بشناعة ما تطلعت إليه نفسه فانقلب ينكره بعد أن كان يشتهيه.. لقد رفع النبي صلى الله عليه وسلم همة هذا الفتى فأخرجه من ظلام الشهوة وسجنها الضيق إلى نور الإيمان ورحابة الانتماء إلى جماعة المسلمين.. فتحولت نظرته إلى المرأة من موضوع لإشباع غريزة ثائرة.. إلى إدراك حقيقة أن النساء كلهن لايخرجن عن دائرة الأمهات والبنات والعمات والخالات.. يستوجبن التوقير والإكبار، والغيرة من أن تنتهك أعراضهن.
ثم وصلت مع تلاميذي إلى أن الله جل وعلا شرع الشرائع وحد الحدود لا ليحرم عباده من شهوات نفوسهم، كيف وهو سبحانه بارئهم، وهو بطبائعهم أعلم (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) (الملك:14) بل إرشادا للخلق وتعليما.. ليجعلوا من شهواتهم قوة نماء وبناء وسعادة، لا سبب خراب وشقاوة…
3 ـ الاعتبار بالنهايات
ولك أيها المدرس أن تكلف تلاميذك بتتبع صور الشقاء والتعاسة والهلاك، بسبب الانغماس في الشهوات المحرمة، وما أكثرها -كما قد علمت- في هذه المؤلفات وبخاصة في روايات “الحي اللاتيني” و”أديب” و”اللص والكلاب”. فإن هم فعلوا ذلك جعلته مدخلا تثبت منه شؤم المعصية ونفرة النفوس السوية منها؛ لما ركز فيها من الاعتبار بالنهايات البئيسة، كنهاية “أديب” إلى الجنون، أو كنهاية “جانين مونترو” في الحي اللاتيني التي أجهضت حملها وأشرفت على الموت ثم سقطت في حمأة الدعارة، أو كنهاية “نور” و”سعيد مهران” في اللص والكلاب، ومنها هذا المقطع على لسان “نور” تكشف فظاعة النهاية، ورعب المآل الذي ينتظرها.
فهذه النفوس السوية التي تعتبر بتلكم النهايات، يبعد جدا أن تغتر بأوهام البدايات الزائفة؛ من قبيل ما زخرفه صاحب “الحي اللاتيني” أوائل ظهور شخصية جنين مونترو في الرواية، ومعرفتها بالفتى اللبناني.
4 ـ تصحيح المفاهيم
من المعاني الإنسانية السامية التي حفظتها الشريعة الإسلامية السمحة، وحاطها الله تبارك وتعالى بتعاليمه الربانية، ورسوله الكريم بتوجيهاته النبوية؛ مفهوما الحب والحرية. وقد تواطأت أدبيات الحداثيين، وأعمالهم السينمائية والتلفازية على اعتبار الزنى ومقدماته حبًّا، واعتبار الخلاعة والتهتك ومعاقرة الخمور حرية. وذلك جريا على سننهم في تحسين القبائح وتسميتها بغير أسمائها.. يخادعون الجاهل المغفل، ويجرئون الفاسق الماجن. حتى ظن كثير من أهل زماننا أنْ ليس لتلك الألفاظ الجميلة إلا تلك المعاني القبيحة، فغدا بعض الصالحين يعاف أن يُمِرّها بلسانه أو أن تقرع سمعه.
ولاريب أن تقويم هذا الانحراف أمانة يتحملها المربون، ويستطيع المدرس أن ينطلق من بعض المقاطع -وما أكثرها- في المؤلفات المذكورة، ويوازنها بمقاطع من قصص الأنبياء في القرآن، أو قصة النبي صلى الله عليه وسلم مع أزواجه، أو قصص الصحابة الكرام من كتب التراجم والسيَر.. كقصة موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام لما ورد ماء مدين من سورة القصص (الآيات: 28…22) فيبين للتلاميذ أن التي جاءته (تمشي على استحياء) وقالت: (يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين) وفطن ولدها الشيخ الوقور إلى مرادها فقال: (إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين).. هنا يبين المدرس أن هذه الحيية الكريمة أحبت في موسى عليه السلام أمانته وشهامته وعفة نفسه، ولم يبعثها ذلك الحب على التهتك وإظهار المفاتن وإغواء الناظرين، وما كان هو عليه السلام ليقبل بها زوجا لو ما تجملت بالحياء. وحاشا أن يكون الحب قرين العهر والشقاء.
وقد جعلت هذا مدخلا لتثبيت أن آية الحب حقيقة أن يقرب المحبين من محبوبهم الأعظم: الذي برَأهم وهو سبحانه يكلؤهم. وإلا فما هو إلا نزوة لا تلبث أن تنقلب نقمة وعداوة (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) (الزخرف 67).
ومن الإجراءات الأولية في دراسة المؤلفات: تحليل الغلاف، وفي رواية “اللص والكلاب” صورة على الغلاف لامرأة متبرجة بزينتها كشفت أكثر مفاتنها.. ورأيت أن كثيرا من التلاميذ يصفونها بالمرأة “المتحررة”، وما ذلك إلا مما انطلى عليهم من أباطيل الحداثيين الذين جعلوا الخروج على شريعة الرحمن حرية.
فكنت أجعل ذلك موضوعا لحوار موجه بمقاطعة مختارة من الرواية، وأسئلة مخصوصة؛ من قبيل: “متحررة” من أي شيء؟ و”تحررها” هذا أليس السبب في انحرافها وشقائها؟ ثم هذا “التحرر” ألا يشبه “تحرر” اللص في الرواية نفسها من سلطة القانون فأباح لنفسه السطو على الممتلكات؟
هكذا يصل المتعلم إلى الفهم السوي لقيمة الحرية، وأن التحرر مفهوم نسبي لا قيمة له إلا باعتبار ما يضاف إليه؛ فيحمد المتحرر من آصار الباطل وقيود الظلم، ويذم “المتحرر” من قوانين العدل وشرائع الإسلام.
وبعد فهذا بعض ما تيسر لي في هذا الموضوع، فإن يك فيه من خير فتوفيق من الله وحده، وإن كان غير ذلك فمن تقصيري، وكلال رأيي، وقلة حيلتي، ومن الشيطان.. وأعوذ بالله من الخذلان، والله ورسوله صلى الله عليه وسلم منه بريئان. وأسأل الله بمنه وكرمه أن يجعله خالصا لوجهه الكريم. وما أريد به إلّا النصح للمسلمين، والمعذرة بين يدي رب العالمين؛ (قالوا: معذرةٌ إلى ربّكم ولعلهم يتقون). (الأعراف:164).
فلعله كلمة يسوقها الله سبحانه برحمته إلى من بيده الأمر، فتكون سببا في إزالة هذا المنكر، وكشف عواره، وغوث ناشئة المغرب من وباله.