دعت توصيات مؤتمر الأمم المتحدة حول المرأة (بكين 1985) في بندها (62)؛ إلى اتخاذ التدابير اللازمة للمساواة بين الرجال والنساء في الإرث، وإلغاء القوانين والأعراف التي تميز المرأة عن الرجل في ذلك.
وقد عملت هيئة الأمم المتحدة على وضع آليات رقابة تتابع تنفيذ توصيات مؤتمراتها؛ منها: جمعيات حقوقية ونسائية توفر لها كل أشكال الدعم ..
وأول رصد لمطلب المساواة في الإرث في المغرب؛ جاء في بلاغ صحافي لجمعية اتحاد العمل النسائي يوم 7 مارس 1992؛ جاء فيه: “إقرار مبدأ المساواة في الإرث”.
وترى الحركات النسائية المطالبة بتحقيق المساواة التماثلية في الإرث؛ بأن هذه المطالبة تستند إلى ارتفاع علة التمييز التي جعلت بموجبها الشريعة – في حالة الابن والبنت- للذكر مثل حظ الأنثيين؛ وهي علة النفقة ووجوب “نفقة الزوجة” على زوجها.
قالوا: المرأة اليوم تعمل كما يعمل الرجل، وتنفق كما ينفق الرجل، ولم تبق النفقة مسؤولية خاصة بالرجل؛ فيجب أن ترث المرأة في كل الأحوال كما يرث الرجل.
ولمناقشة هذا الطرح أقول وبالله تعالى التوفيق:
كون المرأة تعمل وتنفق كما يعمل وينفق الرجل على وجه المساواة المطلقة؛ وضع غير سليم يتأسس على إلغاء جميع الفروق الوظيفية بين الجنسين؛ وهو ما يهدد الحق والعدل الذين تستقيم بهما الحياة، كما يقوم على إلغاء الدور المحوري الهام الذي تؤديه الأسرة في حياة الإنسان واستقرار المجتمعات؛ وهو الدور الذي تعتبر المرأة عموده الفقري ..
وإذا كان الشرع الإسلامي قد ضمن حق المرأة في العمل، وحق المساواة في الأجر؛ فإنه لا يقر الدعوة إلى تخلليها عن وظائف البيت؛ واعتبار تلك الوظائف هامشية ومتجاوزة؛ لأن هذا سيحدث اختلالا حادا في الأسرة والمجتمع؛ وسيجعل المرأة تُفَرّط أو تُقصّر في عمل حساس وخطير يتوقف عليها ويحتاج إلى عنايتها وتركيزها، وفي المقابل: تنافس الرجال في أعمال لا تتوقف عليها؛ بل يمكن لغيرها القيام بها ..
ومعلوم أن القانون الغربي الذي أقر -نظريا- المساواة التماثلية في العمل؛ فعل ذلك من منطلق مادي يجبر المرأة على العمل إن أرادت العيش؛ وهو منطلق يلغي المنطق والحكمة في توزيع الأدوار بين الجنسين؛ ونحن “إذا نظرنا إلى نوع انقسم إلى جنسين فيجب أن نقول إنه لم ينقسم إلى جنسين إلا لأداء مهمتين، وإلا لو كانت المهمة واحدة لظل الجنس واحدا؛ فالليل والنهار نوعان لجنس واحد هو الزمن، وهذا التنوع أدى إلى أن يكون لليل مهمة هي السكن، وأن يكون للنهار مهمة هي السعي والكدح، والرجل والمرأة بهذا الشكل نوعان لجنس هو الإنسان؛ فكأن هناك أشياء تطلب من كل منهما كإنسان، وبعد ذلك أشياء تطلب من الرجل كرجل ومن المرأة كامرأة”.
ومن هنا أوجبت الشريعة للمرأة “حق النفقة”؛ لتمكينها من أداء دورها الهام؛ فحق النفقة ليس إحسانا إلى المرأة؛ بل هو تعويض لها عما كلفناها به من رعاية الأسرة والطفولة؛ فهو شبيه بنفقة الدول المتقدمة على من تفرغهم لمهام فكرية مهمة تتوقف عليها مصالح دولهم ..
وهذه الرعاية ليست اختزالا لأدوار المرأة في البيت؛ بل اعتراف بأولوية هذا الدور لكونه وسيلة لبناء الإنسان؛ فهو أهم من كل عمل آخر مهما كانت أهميته ..
ولذلك: الدول المتقدمة اليوم تصرف رواتب لربة البيت التي تتفرغ لتربية أطفالها ..
وهو ما يؤكد بأن قانون النفقة هو امتياز لصالح المرأة وليس تفضيلا للرجل عليها؛ ويؤكده قوله تعالى: {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34]
فغاير بين موضوع التفضيل القائم على مبدأ المساواة التكاملية، وموضوع النفقة الذي هو واجب على الرجل وحق للمرأة.
ولو تأملنا قليلا لوجدنا بأن إقرار عمل المرأة في ضوء فلسفة المساواة المطلقة، وما تستلزمه من إسقاط حق النفقة ومساواتها في مقابل ذلك بالرجل في الإرث؛ لوجدنا أن فيه ظلما كبيرا للمرأة؛ لأن الحالات التي ترث فيها المرأة قدرا مهما من المال أقل بكثير من الحالات التي تستفيد فيها من مبالغ مهمة تجنيها من حق النفقة؛ وعلى سبيل المثال: لو افترضنا مجتمعا فيه 1000 امرأة فإن عدد النساء الوارثات لقدر هام من المال قد لا يتجاوز 50 امرأة في الاحتمال، بينما عدد المستفيدات من النفقة الواجبة على الأب والزوج وغيرهما يمكن أن يصل إلى 900 امرأة ..
ومن هنا فإن مصلحة المرأة تقتضي أن نناضل من أجل المحافظة على حق المرأة في النفقة مع إصلاح ما يكتنفه أحيانا من تصورات خاطئة وعادات سيئة.
والحق أن عجبي لا ينقضي من درجة الاستلاب الفكري التي وصلت إليها الحركة النسائية العلمانية، وخضوعها المطلق للرؤى والقناعات الغربية في الموضوع؛ فما قررته الرؤية الغربية الإباحية حقا للمرأة، فهو عندها حق مقدس يجب النضال من أجله ..
أما ما جاءت به الشريعة؛ فمردود وتاريخاني، ولو كان حقا وامتيازا للمرأة يجعل الرجل في خدمتها؛ ومنه: “حق النفقة”!
وهذا يؤكد أن الاختلاف هنا؛ ليس بين قوى تقدمية تدافع عن المرأة وتؤمن بمسلزمات التطور، وأخرى جامدة ورجعية تعادي المرأة؛ بل الخلاف بين توجهين يعلنان العمل لصالح المرأة، لكن من مرجعيتين مختلفتين ..
إن حق النفقة حق من حقوق المرأة؛ يؤدي أدورا مهمة لصالح المرأة والأسرة والمجتمع والدولة؛ فهو مكسب يجب المحافظة عليه ..
والأولى بدل السعي لتغيير أحكام الله مسايرة لتغيرات اجتماعية غير سليمة ولا منطقية؛ الأولى من ذلك أن نعمل على سن قوانين تلزم الرجال – آباء وأزواجا وإخوة- بأداء واجبهم تجاه النساء، وقوانين تجعل الدولة ضامنة لحق المرأة عند غياب أو عجز أولئك الرجال ..
وبهذا نحافظ على أحكام ديننا، وعلى الوضعية الطبيعية السليمة للأشياء.
ولعل من نافلة القول أن أوضح بأن اعتبار وضع الأسرة في الحديث عن عمل المرأة؛ هو منهج مفكرين كبارا نظروا للموضوع بشكل شمولي؛ من أمثال الفيلسوف الفرنسي (أجوست كونت) مؤسس الفلسفة الحسية؛ الذي قال في كتابه: ‘النظام السياسي على حساب الفلسفة الحسية’:
“القانون الطبيعي الذي يخصص النساء للحياة المنزلية قانون صحيح ومحقق”.
وقال أيضا بعد أن أشار إلى الخلل الاجتماعي الناجم عن اشتغال النساء بأشغال الرجال: “ولكن بدل هذه الأحكام الهادمة المفسدة؛ يمكن أن نضع قاعدة طبيعية تضمن حياة المرأة تماما… يجب على الرجل أن يغذي المرأة، هذا هو القانون الطبيعي لنوعنا الإنساني… وهذه القاعدة تريك أخشن أشكال الاجتماع تتحسن وتكمل على قدر رقي النوع الإنساني”.
وقالت الخبيرة الأمريكية الدكتورة (إيدا أولين): “إن سبب الأزمات العائلية في أمريكا وسر كثرة الجرائم في المجتمع هو أن الزوجة تركت بيتها لتضاعف دخل الأسرة، فزاد الدخل وانخفض مستوى الأخلاق… كانت المرأة تتوهم أنها بلغت أمنية العمل، أما اليوم وقد أدمت عثرات الطريق قدميها واستنزفت الجهود قواها فإنها تود الرجوع إلى عشها والتفرغ لاحتضان فراخها”. [المفصل في أحكام المرأة والبيت المسلم (1/23)].
وتقول إحداهن: “لا أحد يصدق أني – بالفعل – اخترت البقاء بجوار طفلي وفضلت هذا على الجمع بين العمل والبيت، وربما أكون موضة قديمة، ولكن يوماً ما سيعتبر الآخرون قراري بتوظيف ذكائي وحيويتي وقدرتي في الابتكار من أجل طفلي أمراً طيباً”.
ثم تستطرد الكاتبة معللة ضرورة وجودها في البيت في أبلغ تعبير فتقول: “ليس هناك مدرسة في العالم في حاجة إليَّ، مثل حاجة أطفالي إليّ”.
بل رجع إلى هذه الحقيقة: الزعيم الشيوعي (ميخائيل غورباتشوف) حيث قال في كتابه ‘البروسترويكا’:
“لقد وضعت الدولة السوفياتية حدا للتمييز ضد المرأة، الذي كان سائدا في روسيا القيصرية، بتصميم ودون مساومة، وكسبت المرأة مكانة اجتماعية يضمنها القانون وتتساوى مع مكانة الرجل، ونحن نفخر بما قدمته الحكومة السوفياتية للمرأة: نفس الحق في العمل كالرجل. والأجر المتساوي للعمل، والضمان الاجتماعي…، وأتيحت للمرأة كل فرصة للحصول على التعليم ولبناء مستقبلها، وللمشاركة في النشاط الاجتماعي والسياسي، وبدون إسهام المرأة وعملها المتفاني، ما كان بمقدورنا أن نبني مجتمعنا جديدا أو نربح الحرب على الفاشية.
ولكن طوال سنوات تاريخنا البطولي الشاق عجزنا أن نولي اهتماما لحقوق المرأة الخاصة واحتياجاتنا الناشئة عن دورها أُمّا وربة منزل ووظيفتها التعليمية التي لا غنى عنها بالنسبة للأطفال.
إن المرأة إذ تعمل في مجال البحث العلمي، وفي مواقع البناء وفي الإنتاج والخدمات، وتشارك في النشاط الإبداعي لم يعد لها وقت للقيام بواجباتها اليومية في المنزل (العمل المنزلي وتربية الأطفال وإقامة جو أسري طيب).
لقد اكتشفنا أن كثيرا من مشاكلنا في سلوك الأطفال والشباب وفي معنوياتنا وثقافتنا وفي الإنتاج، تعود جزئيا إلى تدهور العلاقات الأسرية والموقف المتراخي من المسؤوليات الأسرية، وهذه نتيجة مناقضة لرغبتنا المخلصة والمسوغة سياسيا لمساواة المرأة بالرجل في كل شيء.
والآن في مجرى البروسترويكا بدأنا نتغلب على هذا الوضع، ولهذا السبب فإننا نجري الآن مناقشات جادة في الصحافة وفي المنظمات العامة وفي العمل والمنزل بخصوص مسألة ما يجب أن نفعله لنسهل على المرأة العودة إلى رسالتها النسائية البحتة”اهـ.
وهنا يكمن بعد النظر؛ الذي يضيف إلى سؤال المشروعية سؤال الأولوية والموازنة ..
ولا شك أن التقدير السليم والموازنة الشمولية؛ يسفران عن ضرورة ضمان حق المرأة في العمل واكتساب المال، مع مراعاة واجبها في رعاية حقوق الأسرة وتحقيق المقاصد السامية للتربية والتنشئة الأسرية؛ فإن أمكن الجمع بينهما؛ وإلا فالترجيح يكون لصالح الأسرة؛ وهو ما يفضي إلى ضرورة شيء سمته الشريعة “النفقة على المرأة”، وسماه فلاسفة الغرب “تغذية المرأة”.
فحق النفقة حق ثابت، والتمييز بين الجنسين في توزيع حصص العمل حكمة بالغة، والإخلال بهما يؤدي إلى اختلال خطير في البنية المجتمعية والتوازن الأُسَري؛ وهو ما يؤكد أن أحكام الإرث أحكام محكمة لا تقبل التغيير بتغير بعض الأنماط الاجتماعية تغيرا سلبيا ..
كل ما تقدم يقال في حال سلمنا بمساواة المرأة المغربية للرجل في العمل، وأن عدد النساء المعيلات للأسر هو نفس عدد الرجال؛ والواقع أن نسبة تشغيل الذكور على المستوى الوطني تفوق ثلاث مرات نسبة تشغيل النساء، وتصل إلى ست أضعاف في بعض الجهات كما في الجنوب ( 6,9 ضعف) وطنجة وتطوان (6,1 بالمائة) والجهة الشرقية ( 5,9 ضعف).
وأن أزيد من نصف النساء العاملات متزوجات (57,7 في المئة)، و30,7 في المئة عازبات، و11,7 في المئة أرامل أو مطلقات. [وفق إحصائيات المندوبية السامية للتخطيط2014].
قال العلامة الدكتور مصطفى بن حمزة (رئيس المجلس العلمي بوجدة):
“أتوقع أن يتكرر القول بأن واقع المرأة أصبح الآن مختلفا عما كان من قبل، لأن المرأة أصبحت عاملة ومنتجة ومشاركة في اقتصاد الأسرة، وهو الأمر الذي يرد بأن المرأة عبر تاريخ أمتنا لم تكن كسلة عاطلة أو منسحبة من تنمية موارد الأسرة؛ فكانت تشتغل في بيتها وكانت تحتكر كثيرا من الصناعات المحلية اليدوية، وتشتغل خارج البيوت في الحقول والغابات وغيرها، وتمتلك عن طريق ما ينوبها من التجارة أو الكراء أو الإرث، أو ما يوهب لها من المال.
على أني أرى أن رفع شعار مساهمة المرأة في الإنفاق على الأسرة لفرض المساواة في الإرث؛ يظل قولا لا تسنده شواهد من الواقع القانوني؛ ما دام هذا التوجه غير مقنن في نصوص المدونة نفسها؛ إذ لا يزال الزوج فيها هو المطالب بكل الأعباء المالية ابتداء من دفع الصداق ومرورا بالإنفاق والإسكان والعلاج، وانتهاء إلى دفع مستحقات الطلاق والحضانة، وبسبب هذا الوضع لم نجد في المحاكم دعوات يرفعها الأزواج ضد الزوجات بسبب عدم الإنفاق على الأسرة، ولم نجد في قرارات السجون نساء يعاقبن على عدم الإنفاق، وهذا يبين أن البون بين النظري والواقع بون شاسع”اهـ. [“بحوث فقهية” (ص 212ـ213)].