عوامل الثبات على الدين “لا تغبطوا أحدا لم يصبه في الأمر بلاء”

الثبات على الدين والحق من سمات أهل الحق، فأهل الحق هم أعظم الناس صبرا على أقوالهم ومعتقداتهم.

لما سأل هرقلُ أبا سفيان عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في المدة التي مادَّ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا: هل يرتد أحد منهم عن دينه سخطة له بعد أن يدخل فيه؟ قال: لا، قال: وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشته القلوب، رواه البخاري.
فالإيمان إذا استقر في قلب العبد وخالط بشاشة القلوب يثبِّت العباد ويصبرهم على أحوالهم فلا ينتكسون.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “أما أهل السنة والحديث فما يعلم أحد من علمائهم ولا صالح عامتهم رجع قط عن قوله واعتقاده, بل هم أعظم الناس صبرا على ذلك, وإن امتحنوا بأنواع المحن, وفتنوا بأنواع الفتن, وهذه حال الأنبياء وأتباعهم من المتقدمين كأهل الأخدود ونحوهم، وكسلف هذه الأمة والصحابة والتابعين وغيرهم من الأئمة، حتى كان مالك رحمه الله يقول: (لا تغبطوا أحدا لم يصبه في الأمر بلاء)”.
وقد ذكر أهل العلم جملة من الأمور تحمل المرء على الثبات على أمر دينه منها:
أولا: تدبر القرآن ومدارسته والعمل به.
قال تعالى: “وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً”.
فمن أعظم أسباب الثبات الاعتصام بالقرآن لما اشتمل عليه من الترغيب والترهيب ولأنه يزيد الإيمان ويقي أمراض الشبهات والشهوات، كما اشتمل على جملة من القصص التي تسلي العبد وتبشره.
ثانيا: الاستجابة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: “وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً”.
فالاستجابة لأمر الله تعالى والانتهاء عما نهى عنه يقوي قلب المؤمن فيكون أقدر على الثبات, وأكثر تمسكا بالحق حتى الممات فالطاعات أغذية لقلوب العباد, كما أن المعاصي سموم قاتلة، فمهما التزم العبد بأوامر الله تعالى وانتهى عمّا نهى الله عنه فإنه يكون قويا في مواجهة الفتن ومهما كان العبد مفرطا في اتباع شرع الله تعالى متهاونا في تنفيذه فإنه يكون ضعيفا أمام فتن الشبهات والشهوات, ومن أعطى أسباب الفتنة من نفسه أولا لم ينج آخرا.
ثالثا: كثرة ذكر الله تعالى.
لما أرسل الله عز وجل هارون وموسى إلى فرعون أوصاهما بقوله تعالى: “وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي”.
وأمر اله عز وجل أهل الإيمان عند ملاقاة الكفار بالإكثار من الذكر فقال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ”.
فكثرة الذكر تقوي القلب والبدن، فبه يستعان على مواجهة الفتن والمحن والإحن.
رابعا: سلوك سبيل السلف الصالح.
مضى معنا قول شيخ الإسلام رحمه الله أن أهل السنة أعظم الناس صبرا على أقوالهم ومعتقداتهم, وهذا بخلاف أهل البدع فهم أكثر الناس شكا واضطرابا، وما ذلك إلا لتنكبهم طريق السلف الصالح.
فمنهج السلف منهج وسط معتدل قائم على العلم والإخلاص والصدق والصبر، مما يخول لأتباعه الثبات على الدين والصبر على ذلك.
خامسا: كثرة العبادات والطاعات.
في الحديث القدسي قال الله تعالى: “ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه, فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولإن سألني لأعطينه ولإن استعاذني لأعيذنه”.
فالعبد الذي يتقرب إلى الله عز وجل بالنوافل بعد استكمال الفرائض يوفقه الله عز وجل لكل خير، ويصرف عنه كل شر، وتصير جوارحه مشغولة بما يرضاه الله فترتفع رتبته إلى درجة علية، بحيث إذا سأل الله تعالى أجابه, وإذا احتمى بجنابه واستعاذ به أعاذه، وهذه أسباب للثبات على الحق.
سادسا: القرب من العلماء وطلبة العلم والعاملين والدعاة المخلصين, فإن ذلك له تأثير عظيم.
فمجالسة أهل العلم تزيد الإيمان وتثبت الأقدام.
قال ابن القيم رحمه الله واصفا شيخه ابن تيمية بقوله: “وعلم الله ما رأيت أحدا أطيب عيشا منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش وخلاف الرفاهية والنعيم بل ضدها, وما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشا وأشرحهم صدرا وأقواهم قلبا وأسرهم نفسا، تلوح نضرة النعيم على وجهه, وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءة منا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله وينقلب انشراحا وقوة ويقينا وطمأنينة”.
سابعا: التقة بنصر الله وبوعده.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يبث عوامل الثقة في نفوس أصحابه، وكان القرآن يتنزل على النب صلى اله عليه وسلم والصحابة يعذبون في ربوع مكة يبشرهم بالنصر والتمكين وهزيمة المشركين, كما نزل على النبي عليه الصلاة والسلام بمكة قوله تعالى: “سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ” وقال تعالى: “وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ”.
ثامنا: دعاء الله تعالى.
فالدعاء من أعظم أسباب الخير في الدنيا والآخرة فالمؤمن إذا تعرض للفتنة والابتلاء أول ما ينبغي أن يتبادر إلى ذهنه وقلبه اللجؤ إلى الله تعالى، الذي بيده مقاليد كل شيء, فانظر إلى الغلام في قصة أصحاب الأخدود وقد لجأ إلى الله تعالى داعيا بقوله: “اللهم اكفنيهم بما شئت”, وهذا لأن العبد المؤمن الصادق ثقته بالله تعالى كبيرة، ولذا يلجأ إليه داعيا فالدعاء في شدة الأزمات والشدائد غالبا ما يكون دعاء مضطر إلى الله تعالى قد يئس من المخلوقين والله تعالى يقول: “أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ”.
تاسعا: تعلم العلم النافع.
لا شك أن العلماء هم أقوى الناس في مواجه فتن الشبهات والشهوات كما قال الحسن البصري رحمه الهو: “إذا أقبلت الفتنة عرفها كل عالم وإذا أدبرت عرفها كل جاهل”.
وقد وسم الله تعالى أهل المعاصي بالجهل في كتابه كما قال: “قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ”.
فالعلم النافع من أعظم أسباب الثبات كما أن الجهل من أعظم أسباب الفتنة فالجهل وقود كل محنة وبليَّة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *