لغتنا العربية بين حراسها وبين المتهاونين فيها ذ يونس الناصري

إن الحرص على سلامة اللغة ليس بالأمر الهين سهلِ المنال، فهو يتطلب جهدا وممارسة وسعيا دؤوبا إلى تنقية اللسانين من أي خطأ قد يتسلل إلى لغتنا البديعة، وذلك بتمثل أساليب القرآن الكريم، والاطلاع على جميل نظمه وحسن اتساقه وانسجامه، وإتباعِ ذلك بقراءة ما تيسر من كتب القدماء كابن قتيبة والجاحظ والمبرد وأبي علي القالي وغيرهم كثير، ثم تعويد النفس على تطبيق كل ذلك قراءة وكتابةً.
وهذا عبد الملك بن مروان الأُموي -على جلالة قدره وفصاحته وسعة علمه- قد أجاب شخصا سأله عن إسراع الشيب إلى رأسه، فقال: “شيبتني مواقف الخطابة وتوقع اللحن” ، وليس بعجيب على هؤلاء أن يحرصوا على لغتهم، ويخجلوا من الخطأ فيها، فإن ذلك من أكبر العيوب آنذاك، ومن أجل هذا تفوقت الحضارة العربية الإسلامية على ما جاورها من حضارات، وازدهر العلم بجميع تخصصاته، وانتفع القريب والبعيد بما قدمه الإسلام للإنسانية من أخلاق وثقافة ولغة وعلوم وصناعات.. كل ذلك لاعتزاز المسلمين بلغتهم ودراستهم بها، وقد أثبت علماء الاجتماع بداية بابن خلدون رحمه الله أن الرقي والازدهار الحضاري لأي أمة، لا يكون إلا بلسانها.
يقول أحمد مختار عمر: “وإذا كانت الصحة اللغوية مطلبا عسيرا حتى على المتخصصين، فلا بد أن نقدر مدى صعوبتها على غير المتخصصين، سواء كانوا من كتاب المقالات، أو قارئي النشرات، أو مقدمي البرامج… وما أظن أن أحدا على وجه الأرض يمكن أن يدعي لنفسه العصمة من الخطأ اللغوي، وبخاصة إذا لم يأخذ فرصته من المراجعة والتدقيق والضبط بالشكل..” .

الغِيبَةٌ أم الغَيْبَةُ؟
فمن الأخطاء اللغوية الشائعة التي يكثر دورانها على ألسنة الكثير من الوعاظ وطلبة العلم وغيرهم، ما نقله أحمد مختار عمر عن الشيخ جاد الحق علي جاد الحق شيخ جامع الأزهر في وقته أنه أخطأ فقال: (مجالسُ الغَيْبَةِ والنميمة) بفتح الغين وسكون الياء، وصحتها: (الغِيبَةُ) بكسر الغين ومد الياء” ؛ لأن الغَيْبَةَ بفتح الغين ضد الحضور، نقول: غاب غَيْبَةً ثم حضر، والغِيبَةُ بكسر الغين مصدر الفعل اغتاب يغتاب، أي: أكل لحم أخيه المسلم.

عجمة الفعل المساعد
يكثر أيضا إقحامُ فعل مساعدٍ على بعض العبارات العربية التي لا تحتاج إليه، مثل قولنا: أريد أن أقول لكم.. وهي ترجمة حرفية للعبارة الأعجمية الفرنسية الآتية : je veux vous dire ، والصواب هو قول ما سنقول مباشرة بلا ذكر الفعل “أريد”، وكذلك عبارة: أريد أن أنبهكم إلى مسألة مهمة ، صوابها هو : سأنبهكم إلى مسألة.. أو نقتبس العبارة القرآنية التشويقية فنقول: هل أنبهكم إلى مسألة..؟

(كلما) الشرطية وجوابها
يقول خالد بن هلال العبري: “من الأخطاء الشائعة تَكرار (كلما) في الجملة الواحدة التي تأتي فيها، فتسمع مثلا: (كلما قرأ الطالبُ كلما اتسعت مداركُه)، والصواب أن تأتي (كلما) في صدر الجملة فقط، ولا تكرر بعدها، يقول المولى عز وجل: {يكاد البرق يخطف أبصارهم، كلما أضاء لهم مشوا فيه} (البقرة/20)، وقال سبحانه: {إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا، كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها} (النساء/56)، فالصواب في العبارة السابقة أن يقال: (كلما قرأ الطالبُ اتسعت مداركُه). وقد وردت (كلما) في خمسة عشر موضعا في القرآن الكريم، لم ترد فيها كلها إلا مفردة في صدر الجملة، ونذكر هنا أنه يشترط في شرط (كلما) وجوابها أن يكونا فعلين ماضيين” .

ركاكة (نسيت أنا الآخر)
إن جملة (نسيتُ أنا الآخر) أو (نسي هو الآخر) لا تمت إلى فصيح العربية بأي صلة؛ لذلك قال تقي الدين الهلالي: “هذا خطأ شائع في البلاد العربية، يقول شخص مثلا: نسي صديقي وعدَه ونسيت أنا الآخر، فاستعمال الآخر هنا خطأ محض، والصواب: ونسيتُ أنا أيضا. وهذا الاستعمال موجود في اللغة العامية المصرية بإبدال الهمزة راءً، يقولون مثلا: نسيت أنا (راخر)، والظاهر أن أول من ارتكب هذا الخطأ عامةُ الكتاب المصريين؛ لأنه موجود في لغتهم العامية فاستعملوه في الفصحى، وتبعهم غيرهم من عامة كتاب البلاد العربية والمتكلمين بها من غير العرب” .
إننا لم نكن في بداية دراستنا في الكلية نعلم قليلا ولا كثيرا من هذه الأخطاء التي ارتكبناها في إنشائنا وكلامنا، ونحسب -كما يحسب الآن كثيرون- أنها من صميم اللغة العربية الفصيحة، إلى أن أيقظ فينا بعض أساتذتنا مشعل تصفية اللغة مما علق بها من رواسب؛ فأحببنا لغتنا وعودنا أنفسنا على إصلاحها، وما زلنا إلى الآن نتعلم ونستفيد من شيوخنا وأساتذتنا، فإن العلم بالتعلم، كما أن الحلم بالتحلم.

يتواجد ويوجد أيهما أصح؟
ومن الأخطاء الرائجة عندنا ألفاظ (تواجَدَ وتواجُد ومتواجد) بمعنى الوجود في مكان، وهذا المعنى لم يرد في أي كتاب من كتب اللغة، ففي “معجم مفردات ألفاظ القرآن” للراغب الأصفهاني أن الوَجْدَ هو الحب والحزن، والموجِدة هي الغضب ، وفي المعجم الوسيط من تأليف مجمع اللغة العربية بالقاهرة: “تواجد فلانٌ: أرى من نفسه الوَجْدَ” ، والوجد حسب كتب اللغة وما جاء في أشعار العرب من أيام الجاهلية إلى اليوم هو ما يجده الإنسان في قلبه من الحزن والحب أو من الطرب.. ولا يعني (تواجد) غير هذا المعنى، فلا يفيد الوجود في مكان.
والتواجدُ عند الصوفية هو الرقص والطرب المعروفان عنهم، وفي ذلك قال أبو العلاء المعري ذامّاً المتصوفة:
وقاموا في تواجدهم فداروا كأنهمُ ثِمالٌ من كُمَيْتِ
ومعناه أن تواجُدَ الصوفية يشبه حركات السكارى بعد ثمالتهم، أي: أنهم يميلون يمنةً ويسرةً ويسقطون أرضا ويقومون. ومنشأ هذا الخطأ هو الترجمة الحرفية للفعل الفرنسيse trouver ، وهو من الأفعال الضمائرية التي يُقالُ لها بالفرنسية verbe pronominal ، وأن كثيرا من هذه الأفعال يقابَلُ في اللغة العربية بأفعال على وزن “تفاعل” أو “تفعَّل” ، مثل فعل se multiplier ، يقابَل بـ”تكاثر” أو “تعدد” والفعل se partager يقبَلُ بـ”تقاسم”…فجريا على ذلك سمحوا لأنفسهم (أي المترجمون) بأن يجعلوا فعل “تواجد” قبالة الفعل الفرنسي se trouver ، ولم يراعوا معنى “تواجد” اللغوي والصوفي، ثم شاع اللحن فلم يعد منحصرا في دائرة التراجمة، بل تعداها إلى أوساط المحررين عامة ، وصواب مثل هذه العبارات “أنا متواجد بمراكش” هو “أنا موجود بمراكش، و”هو موجود”، و”وُجِدَ الإنسان..” لا “تواجد الإنسان” و”الشيء موجود بوفرة..” لا “متواجد بوفرة ب..” .
وللكلام تتمة بحول الله وقوته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *