العدالة الغربية في الميزان الحسن العسال

في خريف 1952م اغتالت يد الغدر الفرنسية المُمثَّلَة في “عصابة اليد الحمراء” فرحات حشاد، هذه العصابة التي أسستها الاستخبارات الفرنسية. على الرغم من أن فرحات لم يكن إرهابيا حسب التصنيف الغربي، وإنما كان نقابيا. ومع ذلك لم يشفع له نضاله السلمي في اغتياله في عهد الاحتلال، كما لم تؤب فرنسا جان جاك روسو إلى العدل لمحاكمة مجرميه في خريف 2009، عندما اعترف أحد أعضاء العصابة باغتياله، وهو المدعو أنطوان ميلرو، الذي لم يكتف بالاعتراف بل تبجح بالقول: إن ما فعله شرعي، وإذا استدعى الأمر إعادته سيفعل!
نعم إن فرنسا جان جاك روسو لم تنبس ببنت شفة، ولم تكلف نفسها فتح تحقيق في الأمر وكأنها لا علاقة لها بالجريمة، كما فعل الغرب مع جوليان أسانج مؤسس موقع ويكيليكس المتهم بالاغتصاب، وهو فعلا مغتصب لعدالة أمريكا وشرفها بفضحها على رؤوس الأشهاد؛ وحق له ذلك.
وفي ربيع 2003 اغتالت يد الغدر الأمريكية الصحفي الإسباني خوسيه كوسو بقذيفة دبابة، وهو في غرفته بفندق فلسطين في بغداد. إلا أن الأمر لم يقف عند جريمة الاغتيال بل تعداه إلى وقوف الأمريكان في وجه تطبيق العدالة بالضغط على إسبانيا، أو بالأحرى تواطؤ هذه الأخيرة مع الجهود الأمريكية لمنع معاقبة المجرمين الذين اغتالوا خوسيه كوسو. وتعليقا على ما سُرّب من برقيات تتعلق بالقضية عبر موقع ويكيليكس، قال شقيق خوسيه، خافيير كوسو: “كنت أود أن أرى بلدي، وهو يدافع عن السيادة الوطنية، بدلا من التآمر مع بلد أجنبي ليضع العراقيل في مسيرة العدالة. إنه لأمر مخيف”.
أما صحيفة إيل باييس الإسبانية فأكدت أن الشغل الشاغل للبعثة الدبلوماسية الأميركية في مدريد خلال السبعة سنين الماضية كان العمل على قدم وساق لإغلاق القضية، وإسقاط التهم الجنائية عن الجنود الأميركيين المتهمين بقتل المصور الإسباني.
وعندما صدر أواخر عام 2005 أمرُ إلقاء قبض دولي بحق أحد الجنود الثلاثة المتهمين بقتل كوسو، تحرك الدبلوماسيون الأميركيون للتدخل لوقف النظر في القضية، وكذلك كان؛ لأن الجندي الأمريكي يتمتع بالحصانة من جرائمه، ولترفرف راية العدل الغربية خفاقة، ليراهن عليها عباس والحكام العرب لإنصافهم في فلسطين!
يد “العدالة الغربية” طويلة فقد عمت ثمراتها أرجاء المعمور من سجن أبي غريب في العراق، إلى معتقل غوانتانامو في كوبا، إلى سجن باغرام في أفغانستان، إلى السجون السرية التي أقامتها الولايات المتحدة في عدد من الدول الأوروبية والعربية، إلى “مدرسة الأمريكيتين” التي تُخرّج الجلادين والقتلة والكارهين لشعوبهم.
وإليك أيها القارئ الكريم وصفة من ثمار العدالة الغربية؛ التي يستلذ بها رواد معتقلاتها ضدا على “أذواقهم”. فهناك الاعتقال؛ والاحتجاز؛ والحرمان من استخدام الحواس بطريقة طبيعية؛ والترهيب؛ والألم؛ والإيهام بالغرق؛ والتنويم المغناطيسي؛ والإجبار على تناول المخدرات؛ ودفع الجسد للوهن حتى أقصى الحدود؛ وإطفاء أعقاب السجائر على أجساد المعتقلين؛ وتجريب الأدوية عليهم؛ والصفع والركل؛ والصعقات الكهربائية؛ كما حدث مع المعتقل العراقي في سجن أبي غريب الذي ملأت صورته جميع وسائل الإعلام عبر العالم، ذلك المصلوب الذي أُدخل رأسه في كيس أسود، ولُف جسده بعباءة فضفاضة، وعلقت الأسلاك الكهربائية في أصابع يديه ورجليه، فبدا كشبح من القرون الوسطى. إنه المدرس العراقي المتقاعد الحاج علي القيسي، الذي روى فظاعة ما لاقى من “العدالة الأمريكية” حينما زجّ به في تلك الوضعية، حيث أحس وكأن ضوءً قوياً خرج من عينيه، واصطكت أسنانه، وفي إحدى الصعقات الكهربائية عضّ لسانه وبدأ الدم يخرج من فمه. كل هذه اللمسات الحنون كانت بدافع تحرير العراقيين من طغيان صدام!
إن سجن غوانتانامو غدا رمزا للعدالة الغربية، ومع ذلك أبت فرنسا “العقد الاجتماعي” إلا أن تزج بمواطنها مراد بن شلالي في السجن لمدة سنة ونصف بعد خروجه من جحيم غوانتانامو الرهيب.
وبلاك ووتر وما أدراك ما بلاك ووتر! إنها الرمز الثاني للعدالة الغربية بعد معتقل غوانتنامو، والشركة المجرمة التي استغلتها العدالة الأمريكية للتخفي وراء جرائمها. هذه الشركة أسسها المليونير النصراني “إيريك برينس سنة 1996م، الذي عمل سابقاً في البحرية الأمريكية، وينتمي إلى المحافظين الجدد والملتصق بالتيار المسيحي الصهيوني”.
ولكي تكون جرائمها احترافية بامتياز كانت بلاك ووتر تمتلك أكبر قاعدة عسكرية خاصة في العالم، وتعادل قوتها قوة جيش في دولة صغيرة؛ بعد أن أصبح يعمل لديها مليونا وثلاثمائة ألف فرد في جميع أنحاء العالم وأسطول جوي يقدر بـ 20 طائرة، وجهاز خاص للاستخبارات.
كل هذه الترسانة العسكرية سُخّرت لقتل الأبرياء في العراق وأفغانستان، والآن تنوي حط الرحال في فلسطين لحماية الكيان الإرهابي وعملائه من الخونة، ولإزهاق أرواح الفلسطينيين على مرأى ومسمع من كل المدافعين عن العدل في العالم.
إن الغرب أتخمنا بلعن محاكم التفتيش(1) في العلن، وباقتفاء أثرها في سجونه السرية، فعن أي عدالة يتحدثون؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- “في القرن 15 اتهمت امرأة بالسحر على يد محاكم التفتيش في إسبانيا، وأخضعت لقانون الطفو. فإذا طفت فوق الماء فهي مذنبة ويجب أن تحرق بالنار. أما إذا غرقت فهي بريئة”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *