تعليل الأحكام عند الأصوليين ذ: معزوز عبدالحق

إن تعليل الأحكام هو منهج القرآن والسنة، وعليه سار الصحابة والتابعون، فبنوا اجتهاداتهم على ما فهموه من العلل والمقاصد، فعللوا بفطرتهم السليمة، وقاسوا ببديهتهم السوية… حتى ابتلي الناس بعلم الكلام، فجاء التعقيد والخلاف والجدل، ثم انتقل أثر ذلك إلى الميدان الأصولي، لا سيما وأن عددا من كبار المتكلمين كانوا أصوليين وألفوا في هذا الفن.
فبعد أن كانت مسألة التعليل مسلمة كما وصفها الشاطبي رحمه الله (ت790هـ) -حيث ينظر إلى الشريعة على أنها رحمة وخير وصلاح وعدل وتزكية، وأنها لم تترك خيرا إلا دلت عليه، ولم تترك شرا إلا نهت عنه، وسدت طريقه، وأن هذه غايتها وعلتها- صارت مسألة خلافية، وإلى هذا أشار الدكتور مصطفى شلبي بعد أن ذكر مسلك القرآن والسنة في التعليل وجمع كثيرا من تعليلات السلف واجتهاداتهم المبنية عليها فقال:
[وما كنت بحاجة إلى هذا البحث بعد ما تقدم من عرض نصوص التعليل في القرآن والسنة ومسلك الصحابة والتابعين وتابعيهم فيه غير متخالفين ولا متنازعين، وفيه الحجة القاطعة على أن أحكام الله معللة بمصالح العباد، وقد وجد إجماع أو شبه إجماع على هذه الدعوى قبل أن يولد المتخاصمون فيها…..] .
ولورود هذا التخاصم، ووقوع الخلط بين تعليل أفعال الله وتعليل أحكامه، وانسياب ذلك في كتب من ألف في علم الأصول من علماء الكلام وغيرهم، استعصى على بعض العلماء تصنيف المذاهب في هذه القضية -تعليل الأحكام- وتحقيقها تحقيقا علميا دقيقا، وذلك لاتصالها بقضية تعليل أفعال الله، ولهذا الترابط الوثيق بهذا الأصل العقائدي لم يوفق بعضهم في نسبة القول بعدم تعليل الأحكام إلى أصحابه؛ إما بتعميم هذا الرأي إلى أطراف لم تقل به البتة، أو حصره في أطراف دون استغراق ذلك إلى بقية القائلين به.
فهذا مثلا الإمام شهاب الدين الزنجاني (ت656هـ) ينسب إلى جماهير أهل السنة إنكار تعليل الأحكام بالمصالح، ويقول بأن الأحكام الشرعية عندهم [أثبتها الله تحكما وتعبدا] أما ما قد يتعلق بها من مصالح العباد، فإن ذلك [ثابت ضمنا وتبعا لا أصلا ومقصودا] ولم يستثن من هذا التعميم إلا الأحناف. ويذهب الدكتور الريسوني إلى أن الإمام الشاطبي (ت790هـ) فقيه المقاصد -الذي أصبحت تعرف به ويعرف بها- أيضا لم يوفق في نسبة المواقف من التعليل إلى أصحابها حيث نسب القول بإنكار التعليل إلى الإمام فخر الدين الرازي (ت606هـ) قال الشاطبي: [وزعم الرازي أن أحكام الله تعالى ليست معللة بعلة البتة، كما أن أفعاله كذلك] ، فعقب الريسوني مستغربا وقال: [وتبقى الغرابة في نسبة هذا للرازي وحده مع أنه لم يكن بدعا في الأشاعرة، بل هو حين دافع عن إنكار التعليل -تعليل الأفعال وليس تعليل الأحكام- إنما تكلم باسم الأصحاب أي الأشاعرة] .
والذي قصدته من هذه التوطئة هو بيان صعوبة تحديد مواقف الأصوليين قاطبة من قضية التعليل. إذ الأمر يستلزم تتبعا واستقصاء واستقراء ينوء بالعصبة أولي القوة؛ لكثرة علماء الأصول وتعدد مؤلفاتهم في هذا العلم. ولأن ما لا يدرك كله لا يترك جله، سأعرض الاتجاهات العريضة أو الموقف العام من قضية التعليل والأساس الكلي الذي يقوم عليه هذا الاتجاه أو ذاك مع الاستشهاد بأقوال بعض أهل العلم ممن يمثلون هذه المدرسة أو تلك.
مواقف الأصوليين من مسألة التعليل
يمكن تقسيم مواقف الأصوليين من تعليل الأحكام الشرعية إلى اتجاهين رئيسين:
1. اتجاه منكري التعليل: المدرسة الظاهرية:
من أشهر من آمن بهذا المذهب ودافع عنه وتصدى لمخالفيه الإمام ابن حزم الأندلسي (456هـ)، إذ تناول مسألة التعليل بالنقد اللاذع في بابين من كتابه “الإحكام في أصول الأحكام” وهما الباب الثامن والثلاثون “إبطال القياس في أحكام الدين” والباب التاسع والثلاثون “إبطال القول بالعلل في جميع أحكام الدين”، وأظن أن عنوان البابين يغنيان عن كل بيان، وليس من العلماء من نفى التعليل بنوعيه القياسي والمصلحي، وشدد النكير على القائلين به مثل ابن حزم. وهذه بعض أقواله في إنكار التعليل والقول بالعلة والعلل؛ قال: [العلل كلها منفية عن أفعال الله تعالى وعن جميع أحكامه البتة] . وقال في موضع آخر: [ونحن إن شاء الله تعالى موردون مشاغب أصحاب العلل، ثم موردون البراهين الضرورية الصادقة على إبطال العلل جملة] .
وفي الباب التاسع والثلاثون فصل بعنوان: “فيما ورد في القرآن من النهي عن القول بالعلل، قال في مقدمته: [ونحن موردون -إن شاء الله تعالى- ما في القرآن من النهي عن القول بالعلل في أحكام الله عز وجل وشرائعه فكتاب الله تعالى هو الحق الذي يقذف بالحق على الباطل فيدمغه، فإذا هو زاهق، ومن أبى ذلك ختمنا له الآية، وهو قوله تعالى:﴿ ولكم الويل مما تصفون﴾ الأنبياء:18] .فكانت حملته شعواء لا هوادة فيها على كل من أثبت علة أو قال بها في شرع الله وأحكامه.
ومن جملة ما استدل به قوله تعالى: ﴿ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين، فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما، وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين﴾ سورة الأعراف، الآية19. وقوله تعالى حاكيا عن إبليس: ﴿أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين﴾ الأعراف:12. قال أبو محمد: [فصح أن خطأ آدم عليه السلام إنما كان من وجهين: أحدهما: تركه حمل نهي ربه تعالى على الوجوب. والثاني: قبوله قول إبليس أن نهي الله عن الشجرة إنما هو لعلة كذا. فصح يقينا بهذا النص البين أن تعليل أوامر الله تعالى معصية، وأن أول ما عصي الله تعالى به في عالمنا هذا: القياس، وهو قياس إبليس على أن السجود لآدم ساقط عنه لأنه خير منه، إذ إبليس من نار وآدم من طين. ثم بالتعليل كما ذكرنا. وصح أن أول من قاس في الدين، وعلل في الشرائع فإبليس، فصح أن القياس وتعليل الأحكام دين إبليس، وأنه مخالف لدين الله تعالى. نعم ولرضاه، ونحن نبرأ إلى الله تعالى من القياس في الدين، ومن إثبات علة لشيء من الشريعة وبالله تعالى التوفيق] .
فعلى مذهب ابن حزم -عميد كلية الظاهرية- ما على الإنسان إلا أن يتعامل مع جميع الأحكام الشرعية بكامل التسليم ومنتهى التفويض، ولا يحل له أن يسأل عما فيها من مصالح ولا عما تدفعه من مفاسد.
وهذه نظرية التفويض التعبدي بدلا من نظرية التعليل المصلحي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *