المطلع على ما جرى في العالم الإسلامي في بداية القرن العشرين، والمتابع لما يحدث للمسلمين وبلدانهم في بداية هذا القرن الواحد والعشرين، عند المقارنة بين الزمنين، يستيقن أن البدايتين متماثلتان، فأغلب الدول الإسلامية كانت تحت الاحتلال الذي اتخذ شكل انتدابات أو حمايات، والموتى كل يوم بالمئات، والأعراض منتهكة، والثروات منهوبة، والفاعل الإنسان الغربي المستقوي بالعتاد الحربي وأسلحة الدمار ينشر من خلالها الإرهاب والفوضى الخلاقة التي خلقت له عقودا من الاحتلال للبلدان الإسلامية، واستنزاف ثروات المسلمين لبناء بلدانه وحضارته والإنفاق على تطوير ترسانته الحربية، بل حتى البشر المسلمين زج بهم في حروبه ليموتوا بدلا عن أبنائه.
فمنذ مؤتمر باريس للسلام 1919م، والذي تأسست عقبه منظمة عصبة الأمم سلف منظمة الأمم المتحدة، والمسلمون شعوبا وبلدانا ترزح تحت نير الاحتلال المنظم بتشريع من الدول الكبرى التي أسقطت الخلافة العثمانية، وبعد أن استنفذت الاحتلالات العسكرية سواء التي اتخذت شكل حمايات أو انتدابات، كل مسوغات وجودها، ولما لم تستطع مواكبة المقاومة والجهاد في البلدان المستضعفة، اتفقت الدول نفسها التي صنعت عصبة الأمم لتنظيم مصالحها التوسعية، على تأسيس منظمة الأمم المتحدة، وقررت تصفية ما سمته “الاستعمار”، لتبدأ مرحلة الاحتلال عن طريق التبعية الاقتصادية، وإغراق البلدان الإسلامية في ديون البنوك الأجنبية، وصندوق النقد، والبنك الدولي، فأصبحت هذه المؤسسات تتحكم في القرارات السيادية الداخلية والخارجية لبلداننا، وبهذا صارت بلداننا تعيش في ظل نظام دولي مكشوف عماده التحكم في القرارات السيادية للدول من خلال التبعية الاقتصادية، والهيمنة على المؤسسات الدولية، وتحريك العقوبات عبر المنظمات الأممية التي وضعتها الدول الكبرى لتدبير الاحتلال عن بعد، والتحكم في العالم بطريقة تضمن تفوقها واستمرار ضمان مصالحها الاستراتيجية، والتي على رأسها ضمان أمن ومصالح الكيان الصهيوني، الذي يضمن وجودُه في قلب الدول العربية واحتلالُه للقدس الشريف واستفزازُه المستمر للمسلمين استمرارَ الخلافات العربية والإسلامية، ويحول دون أي استقرار أو تنمية في العالم العربي.
كل هذه المقدمة استدعيتها لكي نستصحبها في الحديث عما سمي بالتحالف الدولي ضد تنظيم الدولة، لكي لا نتموقف بشكل يخدم المصالح الغربية ويزيد من استفحال الأزمات في بلداننا ويعمق من تبعيتنا للغرب.
صحيح أن تنظيم الدولة تنظيم متطرف، كفر كل من لم يبايع أميره، وصحيح أنه على خلاف حتى مع التنظيمات التي لا ترى الحل إلا في الجهاد والسلاح، وأنه تنظيم لا يمكن الاطمئنان إليه لأنه يثير كثيرا من الأسئلة، والعديد من الشبهات، لكن بالمقابل هل الحرب على تنظيم الدولة هي الخيار الوحيد لحل الأزمة؟
وهل الحرب على ما تسميه أمريكا الإرهاب سيحل الأزمة في المنطقة؟
وهل أمريكا هي من يحافظ على مصالحنا ويدافع عنا؟
أليست الحرب على تنظيم الدولة مع وجوده في المدن الكبرى في العراق وسوريا، من شأنها أن تزيد من معاناة الشعبين العراقي والسوري؟
ألا تعتبر هذه الحرب حربا خليجية ثالثة ستكون لها عواقب وخيمة أكثر وأفدح وأنكى من الحربين الخليجيتين الأولى والثانية؟
سيقتل العراقيون ويذبح السوريون بطيران الدول الشقيقة والعدوة، وسيدمر ما تبقى من بنيات تحتية في البلدين، ولأن منصب الحكم بطبيعة الحال لن يبقى فارغا فإن أمريكا ستعمره بدمية علمانية مثل كرزاي، الذي نصبته في الحكم بعد الحرب الأفغانية التي أسقطت فيها دولة طالبان الإسلامية، التي استطاعت أن تحكم البلاد وأن توحدها وتقضي على تجارة المخدرات/الكوكايين، التي تعتبر أفغانستان المنتج الأول لها في العالم، والتي تستغلها المخابرات الغربية في الحصول على الأموال القذرة لتمويل شبكاتها الدولية وفي تنفيذ مؤامراتها في حرب الإسلاميين في العالم كما هو الحال في مصر وسوريا وليبيا.
فهل استطاعت أمريكا أن توفر للأفغان الديمقراطية المزعومة والرفاه الاقتصادي والأمن والاستقرار، بعد أن أسقطت دولتهم التي لمت شعثهم المتفرق دوما بين القبائل؟
الإدارة الأمريكية صرحت بأن إسقاط المجرم بشار لن يتأتّى إلا بعد القضاء على تنظيم الدولة، وذلك حتى لا تترك فراغا يستغله تنظيم الدولة للمزيد من الهيمنة، لكن لنفترض أنها قضت على تنظيم الدولة وأسقطت بشار فهل ستسلم الحكم لمن يخدم مصالح السوريين كالجيش الحر أو تنظيم النصرة، أو حتى للنزهاء من علمانيي المعارضة إن كان فيهم نزهاء؟
يقينا الإجابة لا، فلن تسلم السلطة إلا إلى الروافض الموالين لإيران الصفوية، التي دخلت في حلف استراتيجي مع أمريكا تعاد من خلاله صياغة المنطقة، جغرافيا وعقديا وسياسيا، ولن تكون الهيمنة الشيعية على اليمن التي رفع في مآذن مساجدها الأذان الشيعي لأول مرة آخر الثمرات النكدة لهذا التحالف.
إذاً يبقى الفائز الوحيد من هذه الحرب هو الكيان الصهيوني الذي يبقى بعد تدمير سوريا يعربد في الخليج والشام كما يشاء بعد تدمير جيش صدام وجيش بشار، وبعد الاستحواذ على القرار في مصر بتحالف الانقلابيين مع الصهاينة، ثم تضمن أمريكا استمرار تحكمها في السياسة النفطية والسياسة النقدية في العالم، واللتين خاضت من أجلهما حروب الأفغان والخليج الأولى والثانية، حتى تحصل على المزيد من أسباب العتو والاستكبار على المليار والنصف من المسلمين، وتمنع أي نهضة في بلدانهم، بدعوى محاربة التطرف والإرهاب.
إننا عندما نطالب بالتريث في أخذ الموقف من الحرب ضد تنظيم الدولة، لا ندافع عن التنظيم المذكور بل ندافع عن مصالح أمتنا العقدية والمادية، وعن أعراض النساء بالعراق والشام، وعن أطفال المسلمين.
فالعقل والدين والاستراتيجيات تمنع كلها من الانخراط في حرب تحت قيادة أمريكا، فتنظيم الدولة يسيطر على مناطق مهمة وشاسعة في سوريا والعراق والتقارير تثبت أن نصف العراق والشام تحت سيطرته، مما يعني أنه يدير الإدارات والمؤسسات العمومية في مقاطعات ومحافظات آهلة بالنساء والأطفال والعجائز، الأمر الذي يقطع معه كل عاقل أن من سيدفع ثمن الحرب هم هؤلاء الضعفاء المستضعفون.
هذا بالإضافة إلى أن كل طائرة تسقط لأمريكا، وكل جندي أمريكي أو غربي يلقى حتفه في الشام والعراق، وكل رصاصة تطلق، بل كل “ساندويتش” يأكله جندي غربي في صف التحالف سوف يقيد في فاتورة الحرب، لتسددها الأجيال القادمة من دول الخليج والشام، بالإضافة إلى الديون الضخمة التي سيوقع على طلباتها مَن سيجلسون على كراسي الحكم في العراق والشام، وذلك لتمويل صفقات إعمار ما خرَّبته طائرات ومدافع الغرب في حربه ضد الإرهاب الذي يبدو والحالة هذه بالنسبة للمسلمين أرحم وأفضل، وبهذا تضمن أمريكا أن شركاتها المتعددة الجنسية سيصلها النفط باستمرار، وبنوكها المسماة زورا بالدولية ستصلها فوائد القروض الربوية دون انقطاع، الأمر الذي سيكون على حساب قوت أبنائنا ودوائهم وأمنهم وتعليمهم ومستقبلهم.
ربما دفع بعض المتابعين في وجه هذا التحليل بسؤال: ما الحل إذا لم نتحالف مع أمريكا؟
خصوصا وأننا نحن المسلمين والعرب مشتتون منقسمون ضعفاء، فلا نستطيع دفع خطر تنظيم الدولة إلا بالتحالف مع أمريكا لما لها من القوة والسلاح؟
فهل بعد ما سبق في التاريخ وما جنته دول الكويت والسعودية والإمارات من حرب الخليج الأولى والثانية مسوغ لهذا السؤال؟
وهل الاستجارة والاستعانة بأمريكا سيكون ثمنها أقل من ثمن سيطرة تنظيم الدولة على العراق والشام؟
التحالف لحرب تنظيم الدولة، هو الفخ الأكبر لدولنا الإسلامية، فإن حالنا في تأميل مساعدتها ورجاء الخير في التحالف معها كحال كليب بن ربيعة مع غريمه جساس والذي كان معه رجل اسمه عمرو، حين انتقما منه، طلب من جساس الماء حالة موته، فرفض، ثم طلبه من عمرو فنزل إليه وأجهز عليه، فأنشأت العرب في قصتهما بيتا صار حكمة مدى الزمن:
المستجير بعمرو حين كربته كالمستجير من الرمضاء بالنار
فالمستجير بأمريكا والغرب لتحل مشاكله، كالمستجير من حر الشمس، بنار جهنم.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
إبراهيم الطالب/جريدة السبيل
ettalebibrahim@gmail.com