هدي النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في ضبط الكلام والمصطلحات عمر خويا

 

لقد أُوتي النبي صلّى الله عليه وسلّم جوامع الكلم حيث قال: «فضّلت على الأنبياء بستّ: أُعطيت جوامع الكلِم، ونُصرت بالرّعب، وأُحلّت لي الغنائم، وجُعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأُرسلت إلى الخلق كافّة، وخُتم بي النبيّون»[i]، وهو ما فتئ يحرص على ضبط المصطلح أشدّ ما يكون الحرص لعواقبه الخطيرة على الفرد والمجتمع في المعاش والمعاد، قال عليه الصّلاة والسلاّم: «إنّ الرّجل ليتكلّم بالكلمة ما يرى أن تبلغ حيث بلغت، يهوي بها في النّار سبعين خريفا»[ii]، ومثال ما تجسّدت فيه عنايته صلّى الله عليه وسلم به ما يلي:

أ–  تغييره الأسماء ذات المعاني السيّئة إلى أسماء حسنة:

فواقع العرب في الجاهلية معروف بالشدّة والظّلم والحيرة والاضطراب. وألقى ذلك بظلاله على النّاس وأثّر حتى على بعض خصوصيّات حياتهم كتسمية الأماكن والمواليد وغيرها. فلمّا بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم، جاء بالرّحمة والمحبّة والهدى، فكان هديه: دَفعُ ما هو قبيح من الأعمال والأخلاق والأسماء، وتثبيت ما هو جميل وحسن ويُدخل السّرور على القلب؛ من ذلك:

▪ تغييره اسم المدينة من الاسم الجاهلي “يثرب”، وهو من التّثريب، وهو اللّوم والتّعيير، فسمّاها “طيبة”، قال عليه الصّلاة والسّلام:« إنها طيبة – يعني المدينة – وإنها تنفي الخبث، كما تنفي النّار خبث الفضة»[iii].

▪ تغييره اسم بنت تسمّى “عاصية”، وهو اسم له دلالة سلبية تمجّها النّفوس السّليمة، فسمّاها “جميلة”، عن ابن عمر رضي الله عنهما: «أنّ ابنةً لعمر كانت يقال لها “عاصية” فسمّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم “جميلة”»[iv](4).

ب- إعطاؤه المصطلحات مفاهيم خاصة تنسجم ورسالة الإسلام:

فقد أحدث مجيء الإسلام ثورة في حياة النّاس، فانقلب الجهل والضّلال إلى نظام وفاعلية وانضباط بفعل الطّفرة المفهومية التي وقعت في ظلّ سيادة الدّين على الحياة. وتوسّعت دلالات ألفاظ وانحسرت أخرى، وظهرت مصطلحات جديدة لم تكن معروفة من قبل، يقول ابن فارس: «كانت العرب في جاهليّتها على إرث من إرث آبائهم في لغاتهم وآدابهم ونَسائكهم وقرابينهم. فلما جاء الله جل ثناؤه بالإسلام حالت أحوال ونسخت ديانات وأبطلت أمور، ونقلت من اللّغة ألفاظ من مواضع إلى مواضع أخر بزيادات زيدت وشرائع شرعت وشرائط شرطت، فعفى الآخر الأوّل، وشغل القوم ـ بعد المغاورات والتّجارات وتطلّب الأرباح والكدح للمعاش في رحلة الشّتاء والصّيف، وبعد الإغرام بالصّيد والمعاقرة والمياسرة ـ بتلاوة الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وبالتّفقّه في دين الله عزّ وجلّ، وحِفظ سنن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم مع اجتهادهم في مجاهدة أعداء الإسلام، فصار الذي نشأ عليه آباؤهم ونشأوا عليه كأن لم يكن، وحتى تكلّموا في دقائق الفقه وغوامض أبواب المواريث وغيرها من علم الشّريعة و تأويل الوحي بما دُوّن وحُفظ حتّى الآن»[v] وذَكر نماذج من تلك المصطلحات فقال:« فكان مما جاء في الإسلام: ذكر المؤمن والمسلم والكافر والمنافق، وأنّ العرب إنما عرفت المؤمن من الأمان والإيمان هو التّصديق. وزادت الشّريعة شرائط وأوصافا بها سمّي المؤمن بالإطلاق مؤمنا، وكذا الإسلام والمسلم إنّما عرفت منه إسلام الشّيء، ثم جاء في الشّرع من أوصافه ما جاء. وكذلك كانت لا تعرف من الكفر إلاّ الغطاء والسّتر. فأمّا المنافق: فاسم جاء به الإسلام لقوم أبطنوا غير ما أظهروه، وكان الأصل من نافقاء اليربوع. ولم يعرفوا في الفسق إلا قولهم: ” فسقت الرطبة ” إذا خرجت من قشرها.  وجاء الشّرع بأنّ الفسق: الإفحاش في الخروج عن طاعة الله جل ثناؤه. وممّا جاء في الشّرع الصّلاة، وأصله في لغتهم: الدّعاء، وقد كانوا عرفوا الرّكوع والسّجود، وإن لم يكن على هذه الهيئة»[vi].

من ذلك أيضا: المفهوم الجديد الذي طرأ على لفظ المفلس في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتدرون ما المفلس؟» قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: «إنّ المفلس من أمّتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار»[vii]. قال النّووي في شرح الحديث: «معناه أنّ هذا حقيقة المفلس، وأمّا من ليس له مال ومن قلّ ماله، فالنّاس يسمّونه مفلسا وليس هو حقيقة المفلس، لأنّ هذا أمر يزول وينقطع بموته، وربّما ينقطع بيسار يحصل له بعد ذلك في حياته. وإنما حقيقة المفلس هذا المذكور في الحديث، فهو الهالك الهلاك التّام، والمعدوم الإعدام المقطع، فتؤخذ حسناته لغرمائه، فإذا فرغت حسناته أخذ من سيئاتهم فوضع عليه، ثم ألقي في النّار، فتمّت خسارته وهلاكه وإفلاسه»[viii].

هكذا أصبح للمصطلح الشرعي دلالة تميزه عن غيره وترفعه، فهي تحمل معاني الخير للناس، تتقوّم بها تصوّراتهم وسلوكاتهم وتصل دينهم بدنياهم وآخرتهم.

 

[i] – صحيح مسلم، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي    دار إحياء التراث العربي بيروت (د ت). كتاب المساجد، باب: جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا. رقم الحديث: 523  ،  1/371.

[ii] – مسند أحمد بن حنبل، تحقيق شعيب الأرنؤوط  وعادل مرشد وآخرون مؤسسة الرسالة – بيروت، ط 1، 1421هـ – 2001م.  مسند أبي هريرة، رقم الحديث: 8658  ،  14/296.

[iii] – صحيح مسلم  ، كتاب الحج ،  باب: المدينة تنفي شرارها . رقم الحديث: 1384  ،  2/1006.

[iv] – صحيح مسلم ، كتاب الآداب ، باب: استحباب تغيير الاسم القبيح إلى حسن، وتغيير اسم برة إلى زينب وجويرية ونحوهما.

رقم الحديث: 2139 ، 3/1687.

[v] – الصاحبي في فقه اللغة  لابن فارس   تحقيق: عمر الفاروق الطباع    مكتبة المعارف  بيروت  ، ط1:  1414هـ -1993م .

ص 77 – 78.

[vi] – الصاحبي في فقه اللغة  ص78- 79.

[vii]– صحيح مسلم ، كتاب البر والصلة والآداب ،  باب:  تحريم الظلم . رقم الحديث: 2581 . 4/1997.

[viii] – المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج،  النووي، دار إحياء التراث العربي،  بيروت، ط2  1392هـ ، رقم الحديث 2581، 16/135-136.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *