سلسلة التوحيد عند السادة الصوفية: فتح العلي بتوضيح معنى الولي الأولياء ودعوى سقوط التكاليف عنهم أبو محمد عادل خزرون التطواني

جاء الإسلام بعقيدة التوحيد ليزكي نفوس المسلمين ويرفع قدرهم ومنزلتهم، ويغرس في قلوبهم الشرف والعزة والرفعة، ويخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، فعتق رقابهم من رق العبودية.
ولقد بين الله سبحانه وتعالى الغاية والحكمة من خلق الجن والإنس وهي عبادته سبحانه وتعالى وحده فقال عز من قائل: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)1 ، أي ما خلَقَنا الله إلا لتوحيده وعبادته، لكن مع تقادم الزمن وتخلِّي بعض العلماء عن مهمتهم؛ والابتعاد عن التحاكم إلى الوحيين، انحرفت فئات من المسلمين عن جادة الطريق، وزيَّنت لهم شياطين الإنس والجن ما لم يُنزِل به الله من سلطان؛ ولبَّست عليهم، فتشوَّهت صورة العقيدة الناصعة البياض، ودخل فيها ما يعقِّدها ويخرجها عن يُسْرها ونقائها؛ فأضحت العلاقة بين العبد وربه تتطلب وسطاء وشفعاء من الأموات فضلاً عن الأحياء، كما هو حال متصوفة اليوم.
ومما يندى له الجبين وتحزن من أجله العين ما يجده الدارس في خبايا كتب أهل التصوف من انزلاقات خطيرة تهدم ركائز هذا الدين ومعتقده، فتجدهم ينصُّون في مصنفاتهم على سقوط التكاليف التي أمر الله بها عباده كالتوحيد والصلاة والزكاة والصوم والحج.. وأنها عبادات خاصة بالعوام الملحدون، كما وصفهم بذلك الزنديق الأكبر ابن عربي بقوله: ومن وحد فقد ألحد، وجاء تفسيرها في كتاب جواهر المعاني، قال علي حرازم عن خاتم الأولياء أحمد التيجاني: وسألته رضي الله عنه -أحمد التجاني- عن معنى قول الشيخ الأكبر: من وحد فقد ألحد، فأجاب رضي الله عنه بقوله: معنى الإلحاد هو الخروج عن الجادة المستقيمة؛ فإن العارف إذا وحد بتوحيد العامة فقد ألحد، والعامي إذا وحد بتوحيد العارف فقد ألحد يعني كفر 2.
ويعنون بالعوام علماء الظاهر، فالتكاليف في نظرهم تعيق طريق تلقي واستمداد علومهم ومعارفهم عن الله جل مباشرة على حد زعمهم. وهم في الغالب لا يرجعون في دينهم وعبادتهم إلى الكتاب والسنة والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ وإنما يرجعون إلى أذواقهم وما يرسمه لهم شيوخهم من الطرق الضلالة والانحراف عن الجادة، والأذكار والأوراد المبتدعة، وربما يستدلون بالحكايات والمنامات والأحاديث الموضوعة لتصحيح ما هم عليه، بدلا من الاستدلال بالكتاب والسنة، هذا ما ينبني عليه دين الصوفية . ومن المعلوم أن العبادة لا تكون عبادة صحيحة إلا إذا كانت مبنية على ما جاء في الكتاب والسنة.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: ولكن كثير منهم لا يطلقون السلب العام ويخرجون عن ربقة العبودية مطلقا، بل يزعمون سقوط بعض الواجبات عنهم، أو حل بعض المحرمات لهم، منهم من يزعم أنه سقطت عنه الصلوات الخمس لوصوله إلى المقصود، وربما قد يزعم سقوطها عنه إذا كان في حال مشاهدة وحضور، وقد يزعمون سقوط الجماعات عنهم استغناء عنها بما هو فيه من التوجه والحضور، ومنهم من يزعم سقوط الحج عنه مع قدرته عليه لأن الكعبة تطوف به، أو لغير هذا من الحالات الشيطانية، ومنهم من يستحل الخمر في رمضان لغير عذر شرعي زعما منه استغناؤه عن الصيام، ومنهم من يستحل الخمر زعما منه أنها تحرم على العامة الذين إذا شربوا تخاصموا وتضاربوا دون الخاصة العقلاء، ويزعمون أنها تحرم على العامة الذين ليس لهم أعمال صالحة، فأما أهل النفوس الزكية والأعمال الصالحة فتباح لهم دون العامة 3.
وفيما يخص الحلال والحرام فأهل التصوف خاصة أصحاب وحده الوجود منهم لا شيء يحرم عندهم؛ لأن الكل عين واحدة وفعل الخير وفعل الشر والقبيح والحسن إنما هي أفعال لا فروق بينها لاحتواء الذات لها كلها، ولذلك فقد حصل من بعض كبارهم وأئمتهم ما يستقبح الشخص مجرد ذكره؛ كما لا يحق لأي شخص أن يعترض؛ لأن الشيخ لا يفعل شيئا إلا لحكمة.
وقد وجدوا فئاما من الناس من غيبوا عقولهم التي ميزهم بها الله عز وجل عن باقي مخلوقاته، حتى صاروا كالأنعام بل هم أضل سبيلا، يصدقون هؤلاء الدجاجلة في كل ما يتشدقون به، فصدقوهم في التفرقة بين ما يفعلونه بأجسامهم لحكمة وبين ما في أرواحهم من السمو والتعالي عن ما يفعله سائر الناس، فكان منهم: ملاحدة وزناة وحشاشون ولاطة ومأبونون، وما أشبه البارحة باليوم.
فلا تجد في حلقات هؤلاء الصوفية الغلاة إلا الفواحش والمجاهرة بالمعاصي والكبائر والخروج عن تعاليم الإسلام وما لا يمت إلى الإسلام بصلة؛ لأن هذه الأفعال من الاختلاط والحشيش وأنواع الفساد قد تكون مباحة في شريعة الولي مع حرمتها في شريعة النبي، ولكل شريعته.
وذلك بمنظورهم الذي يرون فيه أن للولي شريعته الخاصة، وللنبي محمد صلى الله عليه وسلم شريعته الخاصة؛ فلا يمنع أن يحصل الخلاف بينهما ويكون الجميع على الصواب، فالولي يتلقى شريعته عن الله مباشرة وهي شريعة للخاصة، ومحمد صلى الله عليه وسلم تلقى شريعته عن الله مباشرة وهي شريعة للعوام.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وكثير من الناس يغلط في هذا الموضع فيظن في شخص أنه ولي لله يقبل منه كل ما يقوله ويسلم إليه كل ما يفعله وإن خالف الكتاب والسنة، فيوافق ذلك الشخص ويخالف ما بعث الله به رسوله الذي فرض الله علي جميع الخلق تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر، ..إلى أن قال: وهؤلاء مشابهون للنصارى الذين قال الله فيهم:
{اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}4 .
وفي المسند عن عدي بن حاتم في تفسير هذه الآية، لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عنها فقال: ما عبدوهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه” إلى أن قال: وتجد كثيرا من هؤلاء في اعتقادهم في الولي أنه قد صار عنده مكاشفة في بعض الأمور وبعض التصرفات الخارقة للعادة مثل أن يشير إلى شخص فيموت أو يطير في الهواء إلى مكة أو غيرها، أو يمشي على الماء أحياناً أو يملأ إبريقًا من الهواء، أو أن بعض الناس استغاث به وهو غائب أو ميت فرآه قد جاءه فقضى حاجته، أو يخبر الناس بما سُرق منهم، أو بحال غائب لهم، أو مريض أو نحو ذلك، وليس في هذه الأمور ما يدل على أن صاحبها ولي لله.
وللبحث بقية

—————–
1- الذاريات:56.
2- جواهر المعاني 2 / 211
3- مجموع الفتاوى11/ 403
4- التوبة : 31.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *