التاريخ الأمريكي الدامي وجذوره الفكرية والعقدية الأستاذ أحمد بن الحسين العسال

حصل ممثلو المقاطعات على وثيقة “استقلال” الولايات المتحدة الأمريكية في الرابع من يوليوز 1776م، وجاء في الوثيقة أن: “جميع بني البشر ولدوا متساوين”. واستمرت حرب “الاستقلال” الأمريكية حتى عام 1781م، وبعد عامين اعترفت بريطانيا بالولايات المتحدة كدولة”مستقلة”.

فكيف تكونت الولايات المتحدة الأمريكية؟ وهل احترمت فعلا -في الماضي والحاضر- ما جاء في وثيقة الاستقلال من تأكيدها على المساواة بين بني البشر؟
لما وصل كريستوف كولومبس إلى أرض مَن تمت تسميتهم فيما بعد بالهنود الحمر سنة1492م، كان تعدادهم بين 40 مليونا و90 مليونا، وهناك وثائق تاريخية- حسبما أورد الدكتور منير العكش في كتابه “أمريكا والإبادات الثقافية” أن عددهم وصل 112 مليون، إلا أن عددهم تقلص الآن إلى 4.1 ملايين أي 1.5% من مجموع عدد سكان الولايات المتحدة، فأين تلاشى عشرات الملايين من الهنود الحمر؟
إنهم أبيدوا على بكرة أبيهم، وبأبشع الطرق: فمن القتل إلى الحرق إلى نشر الأمراض الفتاكة بينهم، إلى رمي الأطفال على الصخور لتتناثر أدمغتهم أمام أنظار أمهاتهم، إلى تركهم دون طعام حتى الموت في السفن التي كانوا يشحنون فيها كعبيد من جزيرة إلى أخرى، ثم ترمى جثثهم في عرض البحر ليستدل بها الملاحون عوضا عن استعمال البوصلة، حسبما رواه الراهب الإسباني المطران برثولومي دي لاس كازاس في كتابه “المسيحية والسيف”.
لكن لماذا أبيدوا؟
منذ إبادة الهنود الحمر والولايات المتحدة ماضية في طريقها الدامي لا يردعها رادع إلى حدود هذه اللحظة، لأن وحشيتها نابعة من عقيدة راسخة، وضاربة في جذور تاريخها؛ هذه العقيدة التي بدأت مع المهاجرين الأوائل الذين كانوا يطلقون على أنفسهم لقب الأطهار، وتبلورت في فكرة ما سماه الدكتور منير العكش بالدين الأمريكي، الذي يتلخص في قول الرئيس الأمريكي السابق جون كنيدي: “نحن هنا لتحقيق إرادة الله”، وهذا ما عبر عنه بوش الصغير عند غزو أفغانستان بالقول إنهم سيحققون العدالة المطلقة.
إن أولئك المهاجرين الإنجليز الأوائل إلى القارة الأميركية، والملقبين بالأطهار سيطرت على أذهانهم فكرة أن السكان الهنود لا يشكلون شعباً يستحق الحياة، ومن ثمة كان الواجب إبادتهم، كما جرت محاولة إبادة الكنعانيين في التاريخ بحسب إحدى الروايات الواردة في التوراة المحرفة التي مفادها أن الله سبحانه وتعالى أمر يوشع بن نون أن يبيد الكنعانيين ولأنه تقاعس عن الانصياع لأمره عوقب.
ونجد ظهور تهويد المسيحية التي أسفرت عنها نظرية الإبادة للشعوب مع الإصلاح البروتستانتي في القرن السادس عشر عندما أكد المصلحون على أهمية العودة إلى الكتاب المقدس، وفتح السفر المختوم، وهو سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي أحد أسفار العهد الجديد، والذي كان يعد مختوما أي مغلقا لا يقرأ ولا يفسر من قبل الكنيسة الكاثوليكية.
انطلاقا من هذا المعتقد التوراتي الذي أتاح تهويد المسيحية “كَنْعَنَ”[1] الرجلُ الأبيضُ الهنودَ الحمرَ فأبادهم، كما “كنعن” اليهودُ الفلسطينيين.
وهم لايزالون يعيدون الكرة تلو الأخرى لإبادتهم.
وكان الرئيس كلينتون، المعتدل المسالم، الحمل الوديع، قد ألقى خطابا أمام الكنيست الصهيوني بتاريخ (27/10/1995) قال فيه إنه زار فلسطين المحتلة في بعثة دينية عام 1982م، وإنه عايش خلال تلك الزيارة تاريخ اليهود كما يرويه الكتاب المقدس؛ وإن كاهنه المرافق أوصاه يومئذ قائلا: “إذا تخليت عن إسرائيل فإن الله سيغضب عليك”. وأكد على أنه فهم من وصية كاهنه أن إرادة الله تقضي بأن تكون »إسرائيل لشعب إسرائيل إلى الأبد”! وختم كلينتون كلمته لأعضاء الكنيست بالقول: إنه قطع عهدا وميثاقا لكاهنه على أن إرادة الله ستكون إرادته!
فما معنى هذا العهد الذي قطعه كلينتون، إن لم يكن عهدا بالإبادة الشاملة الكاملة للشعب الفلسطيني؟
وقد سبقه رئيس وزراء بريطانيا الشهير ونستون تشيرشل بالقول: “إن الفلسطينيين كلاب يعيشون في حظيرة، وإنها في النهاية ليست لهم”…
وبعدما تمت إبادة الهنود الحمر، لم يكتف الرجل الأبيض بها، بل حظر على من تبقى منهم الحديث بلغتهم الأصلية، وارتداء زيهم القومي، وكان يتم انتزاع أطفالهم بالقوة من أمهاتهم وآبائهم وضمهم إلى مدارس داخلية أشبه بمعسكرات اعتقال وعمل، حيث تُزرع في ذاكرة الهندي لغة الغزاة وثقافتهم، ويعلمونه كره واحتقار حضارته وعاداته وتقاليده بل واحتقار ذاته و”هنديته”. بمعنى أنه تمت إبادة الهوية والخصوصية، باستعمال القنبلة الثقافية. كما قال مؤسس مدارس الهنود الحمر في أمريكا ريتشارد هنري برات: “اللغة والدين هما خط الدفاع الأخير للهنود، ولابد من القضاء عليهما”. ومن هنا يتضح أن شعارات الرجل الأبيض المرفوعة ما هي إلا طعم مسموم للإجهاز على مكوناتنا الحضارية والوجودية -نحن المسلمين أيضا- وما تقرير راند عنا ببعيد لأنه هو الآخر يدس السم في العسل؛ ويتجلى ذلك من خلال أمانيهم المتمثلة في”الإسلام الديمقراطي المدني”، و”بناء شبكات مسلمة معتدلة”، هذه الشبكات التي حددها بدقة وعنى بها: “الليبراليين والعلمانيين الموالين للغرب والذين لا يؤمنون بالشريعة الإسلامية”.
وعودا على بدء نسرد هذه الحكاية التاريخية التي مصدرها “الحركة الهندية في الولايات المتحدة”، والتي تدل هي الأخرى على دموية التاريخ الأمريكي منذ بداياته الأولى، تقول الحكاية: “إن قتالا مريرا وقع بين الغزاة البيض والهنود الحمر، أسفر عن التوصل إلى عقد سلام بين الطرفين، كان طعمه الكلمات المعسولة؛ وفي خضم المفاوضات الجارية بين ملك السكان الأصليين “تشكياس” وبين جنرال الغزاة “تاكر”، تم دس السم في الخمر وتقديمها للملك الهندي وحاشيته، الذين سقطوا جثثا هامدة بعد شربها”.
وقد ورد في إحدى محاضر جلسات الكونغرس الأميركي في القرن التاسع عشر هذه العبارة: “يجب مساعدة الحضارة على إبادة الهنود كما أمر الله يوشع أن يبيد الكنعانيين الذين لم يكونوا يختلفون عن هنود اليوم ثم إنه عوقب على تقاعسه عن الانصياع لأمر الله”.
وهذا ما دفع الرجل الأبيض إلى إفراغ كل العوالم الجديدة في أمريكا ونيوزيلاندا من سكانها الأصليين والحلول مكانها.
لماذا؟ لأن الفكر اليهودي المتشبع بسفك الدماء متجذر في العقلية الأمريكية ذات الأصول الأنغلوساكسونية كما سلف الذكر، إلى حد أن الحاخام الأمريكي “لي ليفنغر” قال في كتابه عن تاريخ اليهود: “إن الثقافة الأمريكية أكثر يهودية من اليهود أنفسهم”.
بل إن المستكشف الشهير كريستوف كولومبس أوصى في مذكراته بالعمل على الاستفادة من ذهب العالم الجديد “لتحرير” بيت المقدس! وبالطبع بالطريقة نفسها التي “حُررت” بها الولايات المتحدة من الهنود الحمر!
أضف إلى ذلك أن عالما آخر أشهر من نار على علم وهو إسحق نيوتن كان هو الذي عين أن الهيكل موجود مكان المسجد الأقصى حسبما ذكره الدكتور محمد بهجت قبيسي.
ويقول الدكتور منير العكش في نفس السياق إن: “إسحاق نيوتن مكتشف الجاذبية الأرضية بقصة التفاحة الشهيرة وضع -إلى جانب كتابيه الرائعين في العلوم- ما يقارب من أربعين كتابا عن تصورات وحسابات للمعبد اليهودي وقياساته في وصفه لبناء هيكل سليمان، ويصرف وقتا وجهدا في الحديث عن قداسة القياس بالذراع تشبها بالعبريين، أي بعبارة أخرى أن الأنغلوسكسون حاولوا بناء إسرائيل مجازيا قبل أن تؤسس بشكل مادي على أرض الواقع”.
وهناك مثال آخر أورده الدكتور منير العكش في كتابه “أمريكا والإبادات الثقافية: لعنة كنعان الإنجليز”، يوضح الطبيعة الوحشية لهذا الفكر القائم على استباحة الآخر مستشهدا بالفلسفة الأخلاقية للأسقف لانسلوت أندروس الذي يقول “الأرض صحن من اللحم الموضوع على المائدة يقطع منه الإنسان ما يشتهي. وما إن يضع قطعة في صحنه، حتى تصبح له. كذلك إذا اقتطعنا بلدا لا يوجد فيه سكان بيض، يصبح لنا”. (الفصل الرابع ص 65).[2]
ولنا أن نتساءل: هل يستطيع الرجل الأبيض إبادة المسلمين كما أباد الهنود الحمر، ويقضي على لغتهم وثقافتهم ودينهم؟
والجواب كلا:
– لأننا أمة بالمفهوم الحضاري ولسنا مجرد شعوب متناثرة في الجغرافيا.
– ولأن حضارتنا أصيلة موجهة للإنسان بما هو إنسان بغض النظر عن لونه.
– ولأن ديننا سيبلغ ما بلغ الليل والنهار.
– ولأن لنا لغة تحفظ توالدنا الثقافي.
لهذه الأسباب استعصينا على قنبلتهم الثقافية التي بواسطتها أجهزوا على ما تبقى من الهنود الحمر، وسنستعصي على قنبلتهم الهيدروجينية التي استعملوها ضد اليابانيين، وجعلوهم يركعون؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل الله سبحانه وتعالى ألا يسلط على أمته عدوا من غيرهم، فأعطاه إياها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] هذاالمصطلح وضعه منير العكش للتدليل على إبادة الهنود الحمر أسوة بإبادة الكنعانيين في فلسطين
[2] اعتمدت في هذا المقال على كتاب:”أمريكا والإبادات الثقافية: لعنة كنعان الإنجليز”للدكتور منير العكش.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *