لا تظلموا السلفية.. (رسالة مفتوحة إلى كل الهيآت العلمية في الدول الإسلامية .. حتى مفتي مصر) حماد القباج

أوضحنا -مرارا- وأوضح غيرنا؛ بأن الحكم على المنهاج السلفي من خلال الحكم على بعض المنتسبين إليه خطأ وظلم، وذكّرنا بما هو معلوم -شرعا ومنطقا- من أن العدل يقتضي التفريق بين الحكم على الشيء وبين الحكم على المنتسب إليه.

ومن غير مراعاة هذا الأصل سنقع في الظلم والشطط، وأول ما سيلحقه الظلم هو الإسلام؛ الذي ينتسب إليه الآلاف ممن لا يصلحون لتمثيله؛ فلو جعلنا الحكم عليهم حكما على الإسلام لوقعنا في ظلم عظيم.
هذا كله غفل عنه الدكتور علي جمعة؛ مفتي مصر في هجومه الأخير على ما سماه: (السلفية المتشددة).
ويظهر أن (المتشددة) وصف كاشف وليس قيدا؛ لأن المفتي لم يوضح لنا السلفية المعتدلة، وإنما مدح التصوف وزكّاه، ولأن بعض ما أنكره مما يفعله السلفيون عموما؛ كالتمسك بالسنن الذي وصفه بأنه (برنامج كثير الجزئيات)!
فمن واضع هذا البرنامج يا ترى؟!
كما زعم بأن (السلفية) تؤدي إلى الانعزال بسبب أنها تلتزم بالجزئيات وتقف عند الأوامر والنواهي!
فقد أنكر على السلفي أنه “يقول للفرد افعل، افعل، افعل، ولا تفعل، لا تفعل، لا تفعل. وهذه الجزئيات كلها مختصة بالاعتزال لا بالتفاعل”اهـ.
ومن هنا جزم بأن “السلفية المتشددة تريد أن تنعزل بالدين عن سير الحياة”!!
فما هي هذه الجزئيات التي تؤدي إلى هذا الشر كله؟؟؟
ثم انتهى إلى خلاصة غريبة؛ وهي أن (السلفية المتشددة أقرب ما تكون إلى العلمانية منها إلى الإسلام)!!
إن مفتي مصر لم يقدّم في حكمه على السلفية؛ صورة على ما يعني بهذا الذي حكم عليه، ولو فعل لظهر أن كلامه ينطبق على أفراد قد يكون مصيبا في انتقاد بعضهم، وهو لا محالة مخطئ في الحكم على غيرهم؛ ممن يرى أنهم غلاة ومتشددون بناء على تصوره للوسطية والتطرف..
وكان الأحرى برجل في هذا المنصب أن يدعو علماء السلفية إلى حوارات علمية؛ يتمحض فيها الصواب في الحكم بالوسطية أو بالتطرف، أما ادعاء الوسطية أو الاتهام بالتطرف من منطلق نزعات النفس، والقناعات الشخصية فلا يمت للعلم ولا للخلق بصلة، وكون غيرك يقول بتحريم ما تعتقد حليته، أو وجوب ما تعتقد استحبابه لا يكفي للحكم عليه بأنه متشدد وبأنك معتدل، لا سيما إذا قال بقوله جمهور أهل العلم؛ فالقول بتحريم الغناء مثلا حكم فقهي قال به جمهور الأئمة؛ وعلى رأسهم الأئمة الأربعة، وهكذا القول بتحريم الاختلاط ومصافحة الأجنبية، والقول بوجوب إعفاء اللحية وحرمة الإسبال..، وغير ذلك مما يراه البعض قشورا وجزئيات لا ينبغي الاهتمام بها، مع أن الموجه إليها إنما هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وأئمة الأمة!!!
فهل نحكم على من تبنى هذه الأحكام الشرعية ومثيلاتها بأنه متشدد؟
نعم؛ لو لم يكن له متمسك في نصوصٍ صريحة أو ظاهرة، وفقهٍ لأئمة مجمع على علمهم وفضلهم؛ لربما كان الحكم عليه بالشذوذ والانعزال والتشدد صائبا..
فقل لي بربك يا سعادة المفتي بأي وجه يترك ما يعتقد من تلك الأحكام كي يخرج من تهمة التشدد والانعزال؟
هل يقول بأنها مؤقتة بناء على نظرية التاريخانية؟ أو يدعي أنها منسوخة؟ أو يتعسف في تأويل نصوصها؟
فالأول هو عين العلمانية؛ أن يعتقد بأن تلك الأحكام لا يخاطب بها الناس في هذا الزمان.
والثاني ممتنع للإجماع على أنه لا نسخ بعد زمن التشريع.
أما القول بتأويلها؛ كأن يقال مثلا بأن حكم المصافحة خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، وبأن النقاب خاص بأمهات المؤمنين؛ فهذا مسلك منتقد في ضوء النص وما اتفق عليه العلماء من طرق استنباط الحكم منه.
وعلى القول بأنه تأويل صحيح؛ فالقائلون به قلة أمام الجمهرة الغفيرة القائلة بمقابله؛ فكيف تحكم على الآخذين بهذا المقابل بأنهم متشددون ومنعزلون؟!
إن السلفية تدعو إلى مخالطة الناس عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: “الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم”.
وتقول في ضوابط الخلطة والعزلة ما قاله سائر العلماء مما استنبطوه من النصوص الشرعية.
ولا يسع العالم إلا أن يشجع الشباب الذين يعتزلون المنكرات، وما يعتقدون أنه مخالفة شرعية؛ ما داموا يصدرون عن دليل وفقه صحيح لذلك الدليل (ولا شك في صحة الفقه الصادر عن السلف والأئمة).
وإنما يخشى على الشباب الذي يبني تدينه على التعالم وهجر العلماء وتسفيههم ويحاول استنباط الأحكام بعيدا عن أصولهم وقواعدهم؛ فهذا هو الذي يخشى عليه، وهذا هو الذي يؤدي به حاله إلى التشدد أو التفلت، ومن هذا المستنقع خرجت كل الطوائف المنحرفة؛ من خوارج ومعتزلة وعلمانية وعصرانية وتكفيرية وغير ذلك.
إن الانتساب إلى السلفية هو انتساب إلى الإسلام بصفائه وانتساب إلى الإسلام بشموليته؛ حيث يجعل المنتسب على طريق المحجة البيضاء التي تمثل الامتداد الصحيح للإسلام، وتجعله يأخذ الإسلام من كل جوانبه؛ العقيدة والتصور، الأحكام والعمل، الأخلاق والسلوك.. إلـخ. وهذا نقيض العلمانية.
ثم يحكم بعد ذلك على المنتسب حسب صدقه وكذبه، وعلمه وجهله، واجتهاده وكسله، وانضباطه وتفلته، وثباته على الطريق أو انحرافه عنه..
والشباب الذي ينتسب إلى السلفية ويقع في أخطاء أو انحراف نحو الغلو؛ أولى بالعدل والحلم والرفق من اليهود والنصارى الذين ما فتئتم تذكرون بضرورة العدل والتسامح في التعامل معهم.
ومشايخ السلفية الذين ترون أنهم خالفوا الصواب هم أولى بالحوار والمناقشة العلمية المحترمة، التي تدعون إلى انتهاجها مع اليهود والنصارى!
فكيف اتسع صدركم لمخالفات اليهود والنصارى، ولم يتسع لما ترونه مخالفات وقع فيها السلفيون؟!!
قال شيخ الإسلام: “لا عيب على من أظهر مذهب السلف وانتسب إليه واعتزى إليه، بل يجب قبول ذلك بالاتفاق، فإن مذهب السلف لا يكون إلا حقا”اهـ.
إن السلفية منهج أصيل انبثقت عنه أبرز الدعوات الإصلاحية في القرون الأخيرة من تاريخ الأمة، نذكر منها دعوة العالم السلطان مولاي سليمان العلوي في المغرب، ودعوة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة، ودعوة الإمام المصلح محمد علي الشوكاني في اليمن، ودعوة العلامة المربي جمال الدين القاسمي في الشام.. ثم دعوة المشايخ محمد رشيد رضا في مصر، ومحمد تقي الدين الهلالي في المغرب، ومحمد ناصر الدين الألباني في الشام، ومحمد بن صالح العثيمين في الحجاز..إلـخ.
وهؤلاء كلهم أئمة لا يشق لهم غبار في العلم والتربية والدعوة والإصلاح.
فعيب على رجل ينتسب إلى العلم أن يغفل هذا التاريخ وهؤلاء المصلحين فيصدر ذلك الحكم الجائر على المنتسبين إلى طريقتهم، السائرين على دربهم، بما فيهم أولئك الذين اشتط سلوكهم نحو الغلو..
إننا ندرك جيدا السياق الذي جاء فيه حكم المفتي على السلفية، وهو سياق له ارتباطات وتجليات؛ يرتبط بالتوجه السياسي العام تجاه المتدينين والطوائف الإسلامية المغلف بقناع “محاربة الإرهاب”، ويرتبط بالأجندة الغربية التي خططت لمحاربة الإسلام عن طريق محاربة السلفية وتشجيع الصوفية، ويرتبط بالمفهوم المتفلت الذي يراد فرضه في قضية الوسطية والاعتدال، ويرتبط بنفسية كثير من أصحاب القرار الذين يضيقون ذرعا بمظاهر الاستقامة؛ كاللحية والحجاب وأحكامه في اللباس والمصافحة والاختلاط وغير ذلك، كما يرتبط بآثار ممارسات الشباب الطائش والمتعالم، وبآثار فكر التطرف والإرهاب وما يترتب عليه من أعمال تخريبية.
كما أن له تجليات كثيرة؛ من آخرها إغلاق عدد من القنوات الإسلامية الذي جاء بعد إغلاق مئات المدارس الدينية ودور القرآن بذريعة نبذ التطرف والتشدد، والفكر المنغلق.
إن الواجب على المسؤولين الدينيين والسياسيين أن يتحروا العدل، وأن ينصفوا الناس ولو كانوا على خلاف ما يحبون، وما يتأولونه من أمور الدين، والظلم ظلمات يوم القيامة، وآثاره سيئة على الأفراد والمجتمعات؛ فلا تظلموا السلفية..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *