لم ينتشر استخدام كلمة “التطرف” بشكل ملفت للنظر إلا في العقد الأخير من القرن الماضي أي بعد إسقاط أمريكا للخطر الأحمر “الاتحاد السوفييتي” من حساباتها الاستراتيجية وإحلالها الخطر الأخضر “الإسلام” محله، كما نَظَّر لذلك “هنري كيسنجر” منذ زمن سابق، مما يثبت أن ترويجها للمصطلح ليس بريئا كما يردد البعض، وإنما هو مصطلح استراتيجي يخدم مصالحها وخططها كما هو شأن باقي المصطلحات كـ: الشرق الأوسط، والإرهاب، وحقوق الإنسان والديمقراطية والشرق الأوسط الكبير والانفتاح..
إلا أن لأمريكا دوافعها الاقتصادية والسياسية والعقدية وراء إلصاق صفة التطرف بكل ما هو إسلامي، نظرا لكون الإسلام يشكل بنصوصه التي تؤطر كل
المجالات الحيوية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعسكرية..أهم العوائق التي تحول دون الهيمنة الأمريكية على العقول والأنظمة، وللقارئ الكريم أن يتفكر في السبب الذي جعل الرئيس “بوش” يثني على المغرب الثلاثاء الماضي في الأمم المتحدة، ويشيد بالمغرب بوصفه بلدا من البلدان التي قطعت أخيرا أشواطا على درب الحرية، معتبرا أن هذه المقاربة تشكل خير وقاء ضد التطرف.
فعن أية حرية يتحدث بوش؟
وعن أي تطرف؟
أظن أن لا داعي لطرح السؤال فالجواب تضمنه كلام بوش في الخطاب نفسه، حيث أضاف الرئيس الأميركي قائلا: “إن أفضل طريقة للتغلب على المتطرفين على المدى البعيد تكمن في هزم إيديولوجيتهم الظلامية من خلال رؤية تمنح مزيدا من الأمل، ورؤية تنشد الحرية التي تقوم عليها هذه المنظمة” في إشارة إلى الأمم المتحدة.
إذا، لم يبق لنا والحالة هذه، إلا أن نتساءل متى سيَسُن البرلمان المغربي قوانين تُنظم الزواج المثلي وتعترف بحقوق الشواذ وتنظم البغاء والزنا، والإنجاب خارج مؤسسة الزواج..؟ فكل الدول التي تبنت الحرية بمفهوم المنظمة المذكورة إلا واضطرت إلى سَنِّ مثل تلك القوانين.
لكن ما يثير المتتبع هو تماهي خطاب العلمانيين في المغرب مع كل الإملاءات الأمريكية والأوامر الأممية، فهل تشابهت القلوب فتشابهت الكلمات والقناعات؟
إن كيد العلمانيين في بلادنا ضد كل رجوع للناس إلى دين ربهم وسنة نبيهم، واستماتتهم في النيل مما هو إسلامي بشكل أصبح مستفزا لكل مغربي أصيل، إنما يمارسونه من منطلق تبنيهم للأفكار الكونية التي تدعو لها الأمم المتحدة من حرية وانفتاح ومحاربة للفكر المتطرف الظلامي الرجعي المنغلق -بزعمهم-والذي لا يعرف إلا ثقافة الموت (أي ذكر النار وعذاب القبر والآخرة) والنقاب الأسود ، حتى وصل بهم الحنق أن خصصوا عمودا ثابتا في إحدى جرائدهم ينبزون فيه العلماء والعلم، سموه “فتاوى غريبة” ينكرون فيه أحكاما شرعية ثبتت بالأدلة القطعية، هذا بالإضافة إلى الدعوة إلى خلع الحجاب، وتشجيع الشذوذ والزنا والترويج للقمار والشعوذة فلماذا هذا كله؟
إن دوافع العلمانيين في حربهم لكل مظاهر التدين ولو كانت شَعرا في ذقن، لا يمكن اختصارها في الجانب المادي فقط أي السعي إلى تحقيق ربح زائد من وراء ما ينشر في الجرائد، كما لا يمكن اختزالها في ردود الأفعال الناتجة عن الاحتراب السياسي والمنافسة غير الشريفة، واختلاف البرامج الحزبية.
إن التناقض والتصادم الكامل بين العلمانية -والتي انبنت عليها كل المواثيق الدولية وكل ما تدعو إليه الأمم المتحدة- وما يؤسِّس لها من فلسفات مادية إلحادية وبين ما يدعو إليه الإسلام من أحكام وعقائد ليس وليد اليوم بل هو موغل في التاريخ، قد حصل في زمن الملاحم التي دارت بين الأنبياء وأعدائهم من أصحاب الفلسفات المادية الملحدة والشهوات المردية، وقد قص علينا القرآن الكريم خبرهم لتستبين سبيلُ المجرمين، فالذين قالوا لنبيهم عندما أمرهم بتوحيد الله واتباع أوامره وطاعة رسوله:{مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ}الجاثية، إنما كانوا ينطلقون من المنطلقات الفكرية نفسها التي يروج لها العلمانيون اليوم عندما يدعوهم العلماء إلى اتباع كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فأولئك قالوا: ما الحياة إلا حياتنا الدنيا التي نحن فيها, لا حياة بعدها; تكذيبا منهم بالبعث بعد الممات, وما يهلكنا إلا مرُّ الليالي والأيام وطول العمر؛ إنكارًا منهم أن يكون لهم رب يفنيهم ويهلكهم.
وحتى لا نرمى بالتكفير نقرُّ أن أغلب العلمانيين في المغرب يُقرُّون بوجود الله لكنه إقرار مع تعطيل لصفاته سبحانه وتعالى وأسمائه وأفعاله، أي إقرار هو أقرب إلى الإنكار منه إلى الإثبات، فالعلمانيون عندما يقولون: إن الله سبحانه خلق الكون والإنسان ومنحه العقل حتى يدبِّر أموره فهو في غير حاجة لوصاية العلماء ولا هداية النصوص الشرعية، وفي المقابل يدعون إلى التمتع بالملذات والشهوات دون انضباط بأحكام الشرع، ويحاربون تطبيق الشريعة ويُرهبون الناس من الحجاب والحدود، ويخوفونهم ممن يحمل قناعات منع الخمور والربا، ويؤيدون الشذوذ وينشرونه في صحفهم ومجلاتهم وقنواتهم، كما فعلوا بعبد الله الطايع الشاذ، ويشجعون التحول الجنسي ويمدحون مَن كانت له الجرأة على ذلك أمثال الراقص- ـة “نور” الذي كان اسمه قبل أن يغير خلق الله نور الدين، ويحتفون به في كل مناسباتهم.
إن العلمانيين عندما يمارسون كل هذا في بلد مسلم كان إلى عهد قريب يطبق الشريعة الإسلامية وكانت كل نسائه منقبات يرتدين “الحايك” أو الجلباب واللثام، إنهم عندما يفعلون هذا يكونون متطرفين غلاة، لأنهم ابتعدوا عن وسطية الإسلام، وحتى نثبت تطرفهم نسائلهم:
هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطيا أم متطرفا؟
نقطع أن من يثبت وجود الله لا يمكنه أن يصف رسوله الأمين بالتطرف، وما دمنا متفقين أن وسطية الإسلام هي ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام، فلا يمكن إلا أن نعلنها صريحة:
إن النقاب ليس تطرفا بل هو وسطية مادامت نساء النبي صلى الله عليه وسلم كنَّ منقبات رضوان الله عليهن، واللحية والحدود وكل الشعائر الإسلامية الظاهرة والباطنة من ولاء وبراء وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر ليست تطرفا بل هي عين الوسطية مادامت تندرج ضمن ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكلامنا هذا لا ينبغي أن يُحمل على أننا ننفي وجود فكر ديني متطرف إلا أننا مقتنعين أن أصحابه قلة كثرهم التطرف العلماني وسكوت العلماء عن بيان الحق والدعوة إلى الكتاب والسنة كما بلّغهما رسول الله صلى الله عليه وسلم.
من هنا نخلص إلى أن التطرف هو ما يقوم به العلمانيون استجابة لأهواء اليهود والنصارى عكس ما حذرنا منه ربنا سبحانه:{وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ}البقرة، فعلينا باتباع هُدى الله وإعمال ما أنزل الله علينا من علم، ومخالفة أهواء اليهود والنصارى إذا كنا فعلا نطمع في ولاية الله ونصرته لنا، وإذا كنا فعلا مؤمنين بأن الله سبحانه بيده مقاليد الأمور يتصرف في خلقه كيف يشاء.
ولنحذر أن يصدق علينا قول ربنا في أناس كان في قلوبهم مرض زمن النبي صلى الله عليه وسلم: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ}المائدة
فهلا أوبة قبل فوات الأوان.