بينت في المقال السابق حقيقة التسامح عند العلمانيين.. وأظهرت مقاصدهم في ذلك؛ بيانا للناس ونصحا؛ وفضحا لمدعي التسامح!
وهنا أزيد على ذلك ما هو شر مما حكيته عنهم..!
المتتبع لتصريحات العلمانية في كتابات المنتسبين إليها ومقالات أهلها في المجلات والصحف العربية سيجد أنهم يدندنون دائما على مقالة فلسفية واحدة: “لا توجد حقيقة مطلقة.. إنما الحقائق كلها نسبية.. ولا يقين في شيء.. إنما هو الشك”.
وكنت سمعت مرة على قناة راديو مغربية أستاذ فلسفة يقول: “ليس قصد الفيلسوف الوصول إلى الحق؛ بل هدفه عدم الوصول إليها والانشغال بالبحث عنها.. لأنه إن وصل توقف عن التفكير وتوقفت حركة الفلسفة..”!!
هكذا هم العلمانيون؛ المتبجحون بفضل العقل؛ “المتنورون”!! -زعموا- ليس عندهم يقين في شيء على الإطلاق وقد يهون الأمر إن كان ذلك في المتغيرات؛ لكنهم أغلقوا باب المطلق وأعدموه على عتبات معبد إله الشك.
لذلك رأى جون استيوارت مل أن التسامح: (تسامح التنازل) يقتضى اتباع مذهب نسبية الحقائق وأنه يمتنع مع التسامح الاعتقاد في حقيقة مطلقة.
ويكثر على لسانهم قولهم: (قولي صواب يحتمل الخطأ وقول غيري خطأ يحتمل الصواب)، وهي لا تنطبق إلا على الظنيات فقط كالاجتهادات الفقهية، أما ما يتطلب اليقين والقطع كالعقيدة وأصل الدين فإن الأخذ بهذا المبدأ فيه أقل ما يقال عنه إنه قول يوقع صاحبه في التناقض.
ويقولون أحيانا: كل مجتهد مصيب في كل شيء.. وإن كان في العقائد.. وهو قول السوفسطائية الذين يستوي عندهم الشيء ونقيضه وهذا محال. وهذه كما يقول ابن النديم : الحكمة المموهة…وهو ما يريده العلمانيون!
فالسفسطة مذهب يرى أن لا وجود للحقيقة المطلقة وأنها نسبية فيحكمون على الشيء بأنه حقيقة عند طرف وأن نقيضه حقيقة عند طرف آخر مخالف، فليس هناك حق وباطل وكلٌّ صواب، فوجب التساوي والتعايش، فيثبتون صحة الشيء ونقيضه خلافا للمنطق المعروف من أن صدق قضية يلزم منه كذب نقيضها فلا حول ولا قوة إلا بالله…!
وهو حال العلمانيين، ولذلك قال الأستاذ محمد أسد (ليبولد فايس النمساوي اليهودي الأصل) المسلم في كتابه (منهاج الحكم في الإسلام/ص:22) : (إنه في الدولة العلمانية الحديثة لا يوجد مفهوم ثابت يمكن به التمييز بين الخير والشر والعدل والظلم) وهذه السفسطة نوع من أساليب الفرار من النقد والانتقاد!
والعلمانييون سفسطائيون في كل شيء.. حتى في العقيدة، ولذلك تراهم لا يقدسون الله تعالى ورسوله، حتى وقعت كارثة في برنامج العاشرة مساء المصري حيث قال العلماني المصري خالد منتصر: (إيه دخل الله في السياسة).. وهذا اعتراف شجاع منه ليس فيه نفاق أو تقية وهذا ما لا يقدر أن يتفوه به علمانيو المغرب، وإن كان كثير منهم يعتقده!!
فكيف يكون التسامح مع هذا في نظرهم!؟
وطبيعة السفسطائية أنهم يراؤون الناس أنهم حكماء وليسوا كذلك، كما قال ابن رشد في تلخيص كتاب السفسطة لأرسطو(ص:8):
“والاعتقاد بتساوي النقيضين يجهض عملية التطور والتصحيح والبناء الحضاري، لأن أهم محركاته النقد البناء والتدافع الطبيعي الكوني بين المنتوجات الفكرية للناس القائمة على مصادر التلقي عندهم، والتطور والنمو قائم على هدم الفاسد وبناء الصالح وهكذا… بل إن جسم الإنسان لا ينمو إلا بالهدم والبناء الظاهرين بصورة أوضح في نمو العظام إن كانوا يعلمون. ولهذه السفسطة الثقافية والأخلاقية انعكاسات كارثية على بناء المجتمعات”. وانظر لذلك (كواشف زيوف) للشيخ عبد الرحمن حبنكة (ص:225)
وقد كان محمد عابد الجابري العلماني المغربي أصرح وأوضح وأكثر مباشرة في تعريف التسامح الذي يريده المفكرون العلمانييون فقال في (قضايا في الفكر المعاصر، ص:20): (إن اعتماد الشك في التفكير الفلسفي والأخذ بنسبية الحقيقة هو التسامح بعينه).
دون التفريق بين القطعيات والاجتهاديات، وهذا أبين من قوله هو نفسه: (التسامح هو احترام الموقف المخالف). وأريد أن أسجل هنا اعترافا آخر خطيرا أيضا يزيد من قوة الأنوار الكاشفة على حقيقة التسامح عندهم، اعتراف أركوني أنثروبولوجي.
يقول المفكر العلماني محمد أركون، الجزائري الأصل؛ الفرنسي الثقافة والمشرب؛ المغربي المدفن: (إن التسامح ليس فضيلة أساسية تمليها التعاليم الدينية والفلسفية العظيمة..!!!، ولكنه بالأحرى يمثل استجابة للمتطلبات الاجتماعية والسياسية في أوقات الاضطرابات الأيديولوجية الكبيرة). فجعل التسامح شذوذا عن الأصل لأن التسامح عندهم ليس له أساس أخلاقي أو ديني.
قلت عنهم سفسطائيون وهم طوائف وفرق؛ لأنني وجدت تعريفهم منطبقا تماما على أدعياء التسامح هؤلاء. ومن أعجب ما وقفت عليه فيهم.. وهو دال على أن للعلمانيين المتسامحين سلف طالح، فقد نقل ابن الجوزي في تلبيس إبليس (ص41/دار الفكر) عن الحسن بن موسى النوبختي الشيعي صاحب (فرق الشيعة) من كتابه (الآراء والديانات) أنه قال: (زعمت فرقة من المتجاهلين..!! أنه ليس للأشياء حقيقة واحدة في نفسها.. بل حقيقتها عند كل قوم على حسب ما يعتقد فيها، فإن العسل يجد صاحبه المرة الصفراء مرا ويجده غيره حلوا..) وهو مثال كاف للدلالة على مستوى عقولهم.. فالمرارة لم تكن إلا لمرض في لسانهم وذوقهم..وهؤلاء مرضى في عقولهم!