انتشرت هذه الأيام دراسة جديدة أنجزها مركز «ريد سي» التابع لمعهد «غلوبال» حول ظاهرة الإلحاد في دول العالم، تظهر تنامي هذه الظاهرة في العالم كله -بصفة عامة-، وفي المجتمعات العربية -بصفة خاصة-، مما يحتاج إلى توقف لمعرفة الأسباب والأبعاد. مصنفة الدول العربية بحسب نسب الإلحاد فيها: (مصر، ثم المغرب، ثم تونس، ثم العراق، ثم السعودية، ثم الأردن، ثم السودان، ثم سوريا، ثم ليبيا، ثم اليمن).
ومادة: لَـحَدَ، تدل على الميل عن الاستقامة. قال الجوهري: «ألحد فلان: مال عن الحق»، وألحد في دين الله: «حاد عنه وعدل». وقال ابن السكيت: «الملحد: العادل عن الحق، المدخل فيه ما ليس فيه». والإلحاد في الحرم: الظلم فيه أو الشرك وعبادة غير الله، ومنه قوله تعالى: «وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ». وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ ثَلاَثَةٌ: مُلْحِدٌ فِي الْحَرَمِ، وَمُبْتَغٍ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَمُطَّلِبُ دَمِ امْرِئٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لِيُهَرِيقَ دَمَهُ» البخاري. ولَـحَدَ بلسانه: مال، ومنه قوله تعالى: «لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ». وفي قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آَيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا»، يقول القرطبي: «هو راجع إلى الذين قالوا: «لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ»، وهم الذين قالوا: ليس القرآن من عند الله». وقال ابن عباس -رضي الله عنه-: «هو تبديل الكلام ووضعه في غير موضعه». وقال السدي: «يعاندون ويشاقون».
وعن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: «إلحاد الملحدين: أن دعوا اللات في أسماء الله».
وقال شيخ الإسلام: «هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدةُ يُعَظِّمُونَ فِرْعَوْنَ وَأَمْثَالَهُ، وَيَدَّعُونَ أَنَّهُمْ خَيْرٌ مِنْ مُوسَى وَأَمْثَالِهِ».
لقد طلع علينا في الآونة الأخيرة أناس من المعترضين، يشهرون أسنتهم يقرضون بها ثوابتنا ومبادئنا، يزعمون أنهم من أهل الثقافة العصرية، والأفكار الحداثية التنويرية، متأثرين أيما تأثر بالثقافة الغربية، التي بنت فلسفتها على إنكار الغيبيات، ورفض الأديان، وجحود النبوات، وما يستتبع ذلك من إنكار الآخرة وما فيها من حساب، وصراط، وشفاعة، وجنة، ونار.. وجعلوا ذلك لهم دينا يدينون به، وعقيدة يدعون إليها، وفكرا ينتصرون له. «وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ».
لقد صار منهم من ينكر دين الإسلام، ويراه تخلفا ورجعية وظلامية، وأنه سبب تخلف المسلمين، ويرى أن الملاذ في اعتناق دين النصارى أو اليهود، باعتبارهم قادة العالم -كما يزعمون-.
وهذا ما حصل في هذا الزمان، زمن العولمة وتخطي الحدود، وتجاوز القيود، حيث صارت الأفكار الليبيرالية المتفلتة تقدم للناس في قالب جذاب من بلاغة القول، وفصاحة الكلام، وحُلْو التعبير، تدغدغ العاطفة حينا، وتؤز العقل حينا آخر، وترجرج القلب حينا ثالثا، كما هو الشأن في زماننا، حيث سخَّر أعداء الدين وسائل حديثة لتحقيق حياد الناس عن عقيدتهم، وتشكيكهم في مبادئهم، وإلقاء الشبه في رُوعهم، مثل القنوات الفضائية الإلحادية، والإذاعات التشكيكية، والمسلسلات الغرامية المفضوحة، والتحقيقات «العلمية» الزائفة، والمواقع الإلكترونية المبتذلة، والرسائل البريدية الإغرائية، وبرامج الهاتف المحمول المتضمِّنة لأقاصيص مشبوهة، وروايات مكذوبة، وصور مكشوفة، ورسومات شائنة، وعبارات فجة شانئة، ومجلات خليعة، وجرائد تزرع في القارئ بذور الشعوذة والخرافة.. حتى صار كثير من أبنائنا يتساءلون عن وجه الحق وسط هذا الركام الهائل من المعلومات المغرضة، والأفكار القاصفة الجانحة، التي تصدرها مواقع إلكترونية تخصصت في الإلحاد، مثل موقع «منتدى الملحدين العرب»، وموقع «شبكة اللادينيين العرب»، إضافة إلى حسابات إلحادية على مواقع التواصل الاجتماعي.
بل الأدهى من هذا، أن صنعوا لنا رجالا من المعمَّمين، يتقمصون لباس العلماء العصريين، ويتسترون برداء المفكرين المجتهدين، ويلهجون بالقرآن وحديث سيد المرسلين، ثم هم يدسون السم في العسل، ويصدرون فتاوى تُشرع للناس أحكاما من دون الله، تُحل الحرام، وتحرم الحلال، بدعوى مناهج النقد العصرية، وأدوات التحليل الحديثة، التي تبيح لهم قراءة جديدة لنصوص القرآن والسنة، لا في المتغير منها مما يقتضي الاجتهاد السليم، المبني على القواعد العلمية التي حددها علماؤنا الأفذاذ، ولكن شملت الثوابت، والمسلمات، والمقدسات، ليفهموها بحسب هذه المناهج الغريبة، فالربا صار حلالا، والخمر أضحى مباحا، والخلوة بالأجنبية حرية، والتفاضل في الإرث عنصرية، والطواف حول الكعبة وتقبيل الحجر الأسود وثنية، والمقدسات الشرعية غلو ورجعية، والردة عن الإسلام مسألة شخصية، والمقتضيات الشرعية في الحكم بالية، والأحكام الوضعية حداثة وتطوير وتقدمية، ولباس المرأة من ستر أو كشف حرية فردية.. يلوون لذلك أعناق النصوص بما لا تتحمله. قال تعالى: «فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ». قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى اللهُ، فاحذروهم» البخاري.
ورحم الله ابن القيم الذي قال: «إذا سئل أحد عن تفسير آية في كتاب الله تعالى، أو سنة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فليس له أن يخرجها عن ظاهرها بوجوه التأويلات الفاسدة، بموافقة نحلته وهواه، ومن فعل ذلك استحق المنع من الإفتاء، والحجرَ عليه».
وفي سنن الدارمي أَنَّ رَجُلاً يُقَالُ لَهُ صَبِيغٌ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَجَعَلَ يَسْأَلُ عَنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عُمَرُ وَقَدْ أَعَدَّ لَهُ عَرَاجِينَ النَّخْلِ (أعواد جريد النخل ليؤدبه بها)، فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ صَبِيغٌ. فَأَخَذَ عُمَرُ عُرْجُوناً مِنْ تِلْكَ الْعَرَاجِينِ، فَضَرَبَهُ وَقَالَ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ عُمَرُ. فَجَعَلَ لَهُ ضَرْباً حَتَّى دَمِيَ رَأْسُهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَسْبُكَ، قَدْ ذَهَبَ الَّذِى كُنْتُ أَجِدُ فِي رَأْسِي».
فخير الهدى هدى الله، ولا سبيل لمواجهة موجة الإلحاد، إلا بالرجوع إلى كتاب الله الذي «لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ»، واعتماد سنة سيد المرسلين -صلى الله عليه وسلم- الذي قال: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما: كتاب الله، وسنتي، ولن يتفرقا حتى يَرِدا عليَّ الحوض» حسنه الألباني في كتاب: «منزلة السنة».
وكل خير في اتباع من سلـف — وكل شر في ابتداع من خلف
وحرصا على سلامة معتقد المسلمين، وجدنا النبي -صلى الله عليه وسلم- يقمع الأفكار الدخيلة بكل حزم، ويستأصل جذورها بكل قوة، حتى لا يجد أصحاب الأهواء منفذا لقلب الحقائق، وتزييف الوقائع. لما خَرَجَ النبي -صلى الله عليه وسلم- إِلَى خَيْبَرَ، مَرَّ بِشَجَرَةٍ لِلْمُشْرِكِينَ يُقَالُ لَهَا ذَاتُ أَنْوَاطٍ، يُعَلِّقُونَ عَلَيْهَا أَسْلِحَتَهُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ؟. فَقَالَ النبي -صلى الله عليه وسلم-: «سُبْحَانَ اللَّهِ، هَذَا كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى: (اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ)، وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لَتَرْكَبُنَّ سُنَّةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ» ص سنن الترمذي.
وقد أتى عمرُ بن الخطاب -رضي الله عنه- النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فقال: إنا نسمع أحاديث من يهود تعجبنا، أفترى أن نكتب بعضها؟ وفي لفظ أنه أتاه بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه النبي -صلى الله عليه وسلم- فغضب فقال: «أَمُتَهَوِّكُونَ (أمتحيرون) فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، وَالَّذِى نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، لاَ تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ، أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ، وَالَّذِى نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ مُوسَى -صلى الله عليه وسلم- كَانَ حَيًّا، مَا وَسِعَهُ إِلاَّ أَنْ يَتَّبِعَنِي» حسنه الألباني في المشكاة.
هذا عمر، وهو من هو في الإيمان والعلم، ومع ذلك لم يأمن عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تضله الأفكار الهدامة، والمعتقدات الباطلة، ولذلك جاء عليه الدور -رضي الله عنه- في تثبيت هذا المنهج النبوي السليم، لما فتح سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- مدائن كسرى، ووجد فيها كتبا كثيرة عن الحضارة الفارسية وعقائدها وأديانها، فكتب إلى عمر -رضي الله عنه- يستأذنه في نقلها للمسلمين، فكتب إليه عمر قائلا: «إن الله -سبحانه وتعالى- قد أغنانا بمحمد -صلى الله عليه وسلم-، فإن يكن في هذه الكتب هدى، فقد هدانا الله، وإن يكن فيها غير ذلك، فقد كفانا الله، فاطرحوها في الماء أو حرقوها». والقضية هنا ليست قضية إحراق كتب، وإنما هي إتلاف فكر، قد يؤثر على المسلمين، فيستعيضون به عن شرع رب العالمين.
«فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ».