الإبحار الرقمي… وتأثيره على جودة المنظومة التعليمية الحسين باروش

أضحى قطاع التربية والتعليم والتكوين والبحث العلمي يشكل حجر الأساس في المشاريع الإنمائية التي تقوم بها الدول بغرض الوصول إلى جاهزية مريحة لدخول معترك العولمة، فقد كان لبعض الدول السبق في الوعي بضرورة تركيز الرهان على هذا القطاع، مثل ماليزيا وتركيا وفنلندا وغيرها.
وما دام الكل يجمع على موقع الصدارة الذي يحتله هذا القطاع في برامج الدول التي تحترم نفسها، والتي غذت تتحكم في مصير الأمم والدول؛ ذلك أن النهوض الحضاري والتقدم وتحقيق التنمية رهين بجودة هذا القطاع ومدى فاعليته وواقعيته[1].
فجل التجارب التي تقوم بها المنظومة التعليمية التربوية في إصلاح هذا القطاع ينصب بالأساس فيما هو بيداغوجي، والتي تعتمد على البرامج التعليمية والمناهج الدراسية والرفع من جودة التعليم، والتركيز على المتعلم باعتباره مركز ومحور المنظومة التعليمية، لكن هذا غير كافي للنهوض بقطاع التعليم، وغير كافي لبناء شخصية المتعلم الطموح والقادر على احترام نفسه أولا واحترام مدرسه وبالتالي خلق مردودية جيدة لتحقيق مقاصد التربية والتكوين…
فعندما كنا نرى الشغب في الملاعب وفي الشوارع، آن الأوان أن أسلط الضوء في هذا المقال على نقطة مهمة استجدت على الساحة التعليمية، أصبحت تشكل ظاهرة جديدة وأخذت مساحة واسعة على صفحات الجرائد الوطنية والالكترونية بالطرح والنقاش والجدال، وهو:«الإبحار الرقمي» الذي أضحى له نصيب واسع في هدم المنظومة التعليمية وقيمها، ما يشكل خطورة على عقول المتعلمين.
فعندما كنا في السلك الإعدادي والثانوي كنا كلما انتهت الحصة وخرجنا للشارع نجد اللعب والمرح الجماعي هو الوسيلة التي من خلالها نجدد نشاطنا ونعاود الدراسة بجد ونشاط، أما الآن فقد تغيرت الأحوال؛ فقد كان الشغب عن طريق ضرب الأستاذ بالطباشير، وأضحى اليوم من السهل اليسير التقاط الصور ونشرها على مواقع التواصل الاجتماعي، وبالتالي فقد تطور الشغب من الوسائل التقليدية إلى المؤسسة الرابعة\الانترنيت التي اجتاحت باقي المؤسسات: الأسرة والمجتمع والمدرسة وتداولها بين المتعلمين.
الآن أصبح من السهل جعل الأستاذ والمنظومة الإدارية قضية رأي عام من خلال الشغب الالكتروني؛ لما تتميز به الوسائل الجديدة من سرعة فائقة وقادرة على خلق رؤى مجتمعية بخلاف ما كنا عليه سابقا بانتظارنا أياما وليالي لنتوصل بجواب الرسالة المرسلة.
إذن فمن خلال هذا الطرح هناك مجموعة من الأمور التي يجب على كل مربي أن يدركها ويعرف قدرها هو هذا النوع من الشغب؛ فالآن أصبح أغلبية المتعلمين يحشرون أنفهم في هذا البحر الأزرق مباشرة بعد خروجه من المدرسة، بل حتى داخل الفصول الدراسية، إنها ظاهرة خطيرة ومتفشية يجب على المربين أن يكونوا على وعي بها.
فما السبيل الذي سيخرجنا في هذه التطورات السريعة في ظل أستاذ ربما لا يفقه ما يحدث حوله، “إننا فعلا لا ندري حقيقة حجم الضرر الذي يلحق بأطفالنا، ولا نفطن فعلا إلى العوائق التي نضعها في طريق تربيتهم وتكوينهم، التربية والتكوين الضروريين، واللازمين لخوض غمار الحياة، مؤهلين وأقوياء وقادرين على رفع مختلف التحديات”.[2]
لذا فجل القضايا الجديدة لا بد للمربين أن يقوموا بالبحث فيها؛ فلا بد للمنظومة أن تكون على وعي من هذا الأمر، فرسالتي لك أيها المدرس فلتكن تربيتك ثلاثية الأبعاد أن تنمي السلوك وتطور المهارة وتزرع القيمة، فالتركيز على القيم ضروري في بناء شخصية متكاملة منفتحة وإيجابية، فعندما أتحدث عن الجانب القيمي فلا بد من ترسيخه في أذهان المتعلمين حتى يكونوا على وعي بها وبتنزيلها، فلا يكفي للمدرس أن يكون مالكا للمعرفة فقط، وألا يكن همك هو شحن المتعلم بالمعارف وإنهاء المقرر، وهاك بعض النماذج التي تبرز الفجوة بين تقديم المعرفة المجردة في الفصول الدراسية وبين غرس القيم التربوية الإسلامية،
ومن أمثلة ذلك:
– بتنا نسمع بمهندسين في البناء والعمارة، يشيدون العمارات والمباني، سرعان ما تنهار على ساكنيها أو تتصدع من كل جانب، بسبب غش أولئك المهندسين وعدم تقيدهم بمعايير البناء القانونية، وهم بفعلهم هذا رجاء الربح المادي، الذي يُعرض الأموال للضياع والأنفس لخطر الموت، فأين القيم التي تعلموها على مقاعد كليات الهندسة؟
– من الأمثلة كذلك، الأطباء، وقد رأيت وسمعت وقرأت عن جراحين لا ضمير لهم ولا تقوى، يوهمون مرضاهم بأنهم يعانون أمراضاً لا يتعافون منها إلا بإجراء جراحة، وإن بعض أولئك الجراحين يجرون جراحات على مرضاهم بشق سطحي على البطن تظهر من بعده غرز الإبر، كأنهم أجروا فتحاً حقيقياً، لكن شيئاً من ذلك لم يكن، ويدفع المريض مالاً جمعه بشق الأنفس، مقابل عملية جراحية وهمية، فماذا كان يتعلم هؤلاء على مقاعد كلية الطب؟
– المحامون، وما أدراك ما المحامون!! فثمة قصص وروايات في العالم الإسلامي كله عن تلاعبهم في القضايا واستنزافهم لموكليهم، حتى وإن كانوا من أفقر الناس.. فماذا تعلم هؤلاء في كلية الحقوق؟
لا شك أن هناك من لا ينتمي إلى هذه الفئات المريضة، وهم كثر، فماذا عسانا نفعل إذا كان واحد يبني ومائة يهدمون؟ [3]
إذن فالجانب القيمي غير مقتصر على قطاع التربية والتعليم بل الكل مسؤول عليه، بالإضافة إلى هذا كله لا بد وأن أسلط الضوء على الطريقة التي تقدم بها الدروس فلا يكفي أن تلقي الدرس بالطريقة الإلقائية وأن تستحوذ على الكلام كله، فربما يجب علينا أن نعيد النظر في كل هذه الأمور السالفة الذكر، وأخص بالذكر طرق التدريس فلا بد من وقفة ثاقبة تصبوا للهدف وتكون خادمة للدرس وللمتعلم، ثم لك أيها المربي أن تنزل المادة من المستوى العالي، إلى المستوى التعليمي الوظيفي.
فالأستاذ المجد والمجتهد هو الذي يعي ويفهم ماذا سيقدم للمتعلمين ويعرف الطريقة الأنجع لبلوغ الهدف من خلال التمعن في الدروس يتم اختار الطريقة المناسبة لها، والطرق على سبيل المثال لا الحصر، كثيرة منها الطريقة الإلقائية، الطريقة الحوارية، طريقة حل المشكلات… فحتى تنويع هذه الطرق يطرد الملل وسآمته وربما يتيح الفرص للتقرب من المتعلمين أكثر، وتتيح الفرصة كذلك لتبادل المعرفة، ولا تعتبر المدرس فقط هو المالك لها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] “الواقعية” في خطاب الإصلاح التربوي المغربي، إلياس الهاني، مقال منشور، بجريدة السبيل.
[2] إصلاح المنظومة التعليمية: الطفل أولا، د أحمد أمزيان، ص 10.
[3] التربية في العالم الإسلامي: إشكالية الموازنة بين تلقين المعرفة وغرس القيم، يزيد حمزاوي، مقال منشور ملتقى الشبكة النسائية العالمية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *