قبلَ أيّام كنتُ أتحدّث إلى امرأة من معارفي تقيم في بلد أوربيّ وفجأة استأذنتْ مسرعة طالبةً منّي أن أنتظرها لأنّها لن تتأخر، فظللت أنتظرها لمدّة ساعة تقريبا، ولكن لم تأت فانصرفت إلى حال سبيلي، وفي اليوم التّالي اعتذرتْ لي عن التّأخير وقالت إنّ لها جارة عجوزًا لها قطّة اختفت وطلبت إليّ أن أبحث معها عنها، وفعلا ذهبنا لكلّ مكان قد تكون موجودة فيه قرب سكناها، ولمّا تعبنا من البحث والتّفتيش اقترحت عليّ أن تحضر صورة القطّة من بيتها لتبلّغ الشّرطة، وهم يقومون بالواجب، وأخبرتني المرأة بالتّفصيل الـمُمِلّ عن تلك اللّحظات التي كابدت من خلالها هذه العجوز كلّ أنواع الشّقاء والضّياع والحزن الخانق وكأنّها الخنساءُ إذ فقدت صخرًا.. فاستغربتُ كثيًرا وقلت لها: عجيب أمر هؤلاء النّصارى يقتّلون أبناء المسلمين ويذبّحون آباءَهم ويغتصبون نساءهم ويدمّرون بيوتهم فوقَ رءوسهم، ويستعمرون بلدانهم، ثمّ بعد ذلك تجدهم أحرصَ النّاس على العناية بالحيوانات، فأيّ تناقض سافر هذا، وأيّ تخبّط مهلك ذاك الذي يسبحون في ضلاله.. والمصيبة بل الكارثة أنّك تجد من أبناء جِلدتنا من يذهب في مدحهم والثّناء على أخلاقهم وعنايتهم بالحيوانات كلّ مذهب، متجاهلين ما أصاب أمّتنا من تقتيل وتشريد وهلاك على يدهم.
في كتاب الشيخ علي الطنطاوي “هُتاف المجد” (ص136):
“إنَّ الإنكليزي أو الفرنسي، لا يتأخر عن شكرك إن ناولته المِمْلحة على المائدة، ولا يقصر في الاعتذار إليك إن داس على رجلك خطأ في الطريق، وإن رأى كلباً مريضاً تألم عليه وحمله إلى الطبيب، وهو أنيق نظيف مهذب اللفظ لا يستهين بذرة من هذه الآداب، ولكنّه لا يجد مانعاً يمنع رئيس وزرائه أن يأمر فيصبّ النّار الحاميةَ على البلد الآمن، فيقتل الشيوخَ والنّساء والأطفال، ويدمّر ويخرّب ويذبح الأبرياء، ويفعل مالا تفعله الذّئاب ذواتُ الظّفر والنّاب، ويدّعي أنّه هو المتمدن؟
أهذه هي المدنيةُ؟ إن كانت هذه المدنيةُ وهؤلاء هم المتمدّنون فلعنة الله على المدنية وعلى أهلِها”.
وبعدما أنهت المرأة من معارفي الحكايةَ تذكّرت مقالة كنت قرأتها في مجلة نسائية لامرأة تقيم بألمانية، تكلّمت فيها عن العناية الفائقة التي تقوم بها هذه البلاد المتحضّرة على حدّ قولها، لذلك ارتأيتُ أنّه من باب (لكلّ مقام مقال) و(لكلّ حادث حديث) أن أنقل أهمّ ما جاء فيها طلبًا لإتمام الفائدة، قالت:
“فهذه الحيواناتُ تعيش في بحبوحة، وتنظّم حياتَها ترسانة قانونية. بطاقة هُوية تظهرُ اسمها وسنّها ونوعَ فصيلتها، وملف طبيّ وضمان صحيّ.. ولا تتناسل بشكل فوضوي، لأنّ المسألة تتطلّب مواقيتَ مُحدّدة وأماكنَ خاصّة… ولا يقفُ الأمرُ عند هذا الحدّ، بل للقطط والكلاب حلاّقون ومدرّبون، ودُور رعاية، وفنادق، وسوق ممتازة، توفّر كلّ حاجياتها من المأكل والملبس واللّعب، وأفلام فيديو، حتّى أغطيتها وأسرّتها مصممة بأشكال وألوان مُختارة بعناية.. أما الوصلات الإشهارية الخاصّة بها فحدّث ولا حرج، تتفوّق على الوصلات الخاصة بالعطور، وإذا حصلَ وتاه كلب عن صاحبه يوجّه هذا الأخيرُ نداءً إمّا عبرَ وسائل التّواصل أو بِرُكنِ المتغيّبين بحزن وتأثّر قد يصلُ حدّ البُكاء، وقد يُخصّص علاوةً لمن يعثر عليه، وإذا اضطّر أحدهم في التّخلي عن كلبه أو قطّه لأسباب قاهرة، ينشرُ إعلانًا في بحث عمن يتكلّف به. أمّا إذا أصيبَ أحد هذه الحيوانات بحمى أو وجع فإنّ سيارة إسعاف مجهزة بتقنيات عالية مع بيطري وممرضة تحضر على وجه السّرعة لمُعاينته والقيام بما يلزم، وقد يخضع للفحص بالأشعة، وإذا كانت الحالة خطيرة تُجرى له جراحة.. وإذا حدثَ وأصيب بحالة اكتئاب فيؤخذ إلى فندق لتمضية بعض الوقت مع أقرانه حتّى يتحسّن مِزاجه. فبرلين تحتفي بحيواناتها الأليفة بكلّ الوسائل المتاحة، حتّى إنّ بعض المهووسين بها قرّروا فتحَ مقهى للقطط تضمّ صالة عرض ومركزًا للاسترخاء”.
قال ربيع: إنّ دينَ الإسلام قد أوصانا نحن المسلمين بالاعتناء بالحيوانات، وكتب الأجر والثّواب لمن يحسن إليها، والهلاك والعذاب لمن يسيء إليها أو يعذّبها، وهناك أمثلة كثيرة أشهر من أن تذكر في هذه العجالة، ولكن لا تبلغ لهذا الحدّ من الجنون، والسّفه، بحيث تصبح الحيواناتُ أفضلَ بكثير من بعض البشر في عُرفهم وعقيدتهم السّخيفة، ولله في خلقه شؤون.
https://www.facebook.com/rabia.essamlali