بين يوسف بن تاشفين والمعتمد بن عباد

كان يوسف بن تاشفين كما يقول ابن الأثير: “..حسن السيرة خيِّرا عادلا، يميل إلى أهل العلم والدين.. وكان يحب العفو والصفح من الذنوب العظام”.

ولا ينبغي أن نمر سراعا على هذه العبارة الأخيرة التي تقول عن يوسف بن تاشفين أنه “كان يحب العفو والصفح من الذنوب العظام” فإن التاريخ ليؤكد لنا أن يوسف بن تاشفين كان كما ذكر صاحب الحلل الموشية: “أكبر عقابه الاعتقال الطويل”.
أي أن أقصى عقوبة كان يمكن أن يعاقب بها مجرما، هي السجن المؤبد، ولعلنا نستطيع أن نعثر لذلك على بعض الأمثلة في الجرائم السياسية بالذات، أما غيرها من الجرائم الأخرى فقد كانت متروكة للقضاء.
وقصة سجن المعتمد بن عباد نفسها التي أقامت الدنيا وأقعدتها، قد لا تعدو أن تكون مثالا لهذه الصفة التي احتفظ بها التاريخ ليوسف بن تاشفين، وهي أنه أبطل عقوبة الإعدام السياسي أو كاد، وأن “أكبر عقابه الاعتقال الطويل”.
ونقول إن كان المعتمد بن عباد ذلك الشاعر الرقيق هو الذي وضعته الظروف مكان يوسف بن تاشفين لما استطاع أن يتصرف تصرفا أكرم، إن لم يعمد إلى القتل في قسوة وفي غير تردد أو تفكير، وليس هذا الكلام يلقى جزافا ولكن المعتمد بن عباد الشاعر الرقيق قد قدم لنا ما يبرر هذا الاستنتاج بإقدامه على قتل صديق طفولته وشبابه، ووزيره وصفيه، الشاعر ابن عمار، لم يقتله شنقا ولا ضربا بالسيف، ولم يكلف به من ينفذ فيه حكم الإعدام الذي أصدره عليه، وإنما قتله بيديه -الشاعرتين- قتله ضربا (بالطبرزين) على حد تعبير (المراكشي) في كتابه (المعجب) وهو سلاح حديدي يقرب شكله من الفأس، وذلك لأسباب مهما يكن من قوتها فإنها أقل قيمة بكثير من الأسباب التي اقتضت يوسف بن تاشفين أن يدين حليفه السابق المعتمد بن عباد وأن ينزله عن عرشه، ويأمر به ليساق إلى أغمات حيث يقضي بقية حياته بها في السجن.
ذلك أن هذه الأسباب تتعلق بسلامة الأندلس كلها، وأنه يدخل فيها عامل الخيانة، والاستعانة ضد يوسف بن تاشفين (بألفونسو السادس) نفس العدو الذي كان المعتمد بن عباد وغيره من أمراء الطوائف يستنجدون ضده بالأمس بيوسف بن تاشفين.
وهذه حقائق تاريخية لا يسع أي واحد مهما بلغ من جهد أن ينكرها أو يتجاهلها أو يزورها.
مع أن شاعرية المعتمد رقيقة قوية من غير شك، وقصته مؤثرة، ولكن ذلك لا ينبغي أن يغطي على أن تصرف يوسف بن تاشفين معه كان تصرفا سليما لا مطعن فيه إذا نظرنا إليه بمنطق الأحداث التاريخية، وفي حدود أشباهه ونظائره من هذه الأحداث، فإنها الخيانة الكبرى خيانة الدين والوطن والعرش.
مقتطف من مقال جوانب من شخصية: يوسف بن تاشفين لعبد القادر الصحراوي
مجلة دعوة الحق العدد العاشر السنة الثانية محرم 1379 يوليوز 1959

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *