من سجن «غوانتنامو» إلى رحاب مكة والمدينة مصطفى الونسافي

من الظلمات إلى النور (7)

نعرض في هذه السلسلة قصصا مؤثرة لأناس عاشوا فترة من أعمارهم بعيدين عن ربهم، تائهين عن طريق الهدى، تتقاذفهم أمواج متلاطمة من الشهوات والشبهات، قبل أن يتسلل نور الإيمان إلى قلوبهم، ليقلب بؤسهم نعيما، وشقاءهم سعادة..
إنه نور توحيد رب العالمين، إنه قوت القلوب وغذاء الأرواح وبهجة النفوس

«اسمي «تيري هولدبروكس»، كنت مجندا بالجيش الأمريكي، وعملت قرابة ستة أشهر حارسا بمعتقل «غوانتنامو» حيث تحتجز القوات الأمريكية مئات الشبان المسلمين؛ وكان التحاقي بالجيش من أجل أن أعيش حياة مستقرة…» لكن قدر الله سيجر «تيري» إلى حياة لم تخطر له على بال، واستقرار لم يدر بخلده.
عاش «تيري» ملحدا لا يعرف خالقه، مدمن خمر لا يرتدع عن الرذائل بخلق أو دين، وكان دائم الحيرة، لا يفارقه القلق، ولا يجد تفسيرا لشيء أبهره.. لقد كان يرى الابتسامة والرضا على وجوه أولئك «الإرهابيين» الذين يقضي الساعات الطويلة يوميا يحرس زنازينهم الكئيبة، فيما هو حزين يشعر بالحرمان، ولا يستمتع حقا بحياته، وكأنه الأسير وليس هم.
كان «تيري» يحاور من حين لآخر أحمد الراشدي الذي يكنى بـ«الجنرال»، والذي كان أحد الأسرى المغاربة المعتقلين بـ«غوانتنامو» وتم الإفراج عنه لاحقا، وكان -بحسب «تيري»- ذكيا، حيث يطرح أسئلة تدعو المخاطَب للتفكير، وتستفز فضوله للبحث دون الدخول في جدال معه؛ لكن إحدى الليالي داخل المعتقل الرهيب ستعرف انقلابا كاملا في حياة «تيري»، فبعد حوار مطول بصيغة السؤال والجواب بين الحارس والسجين، سيقرر الأول تغيير وجهته في الحياة والتخلي عن كل تلك التصورات الخاطئة التي كان يحسبها قناعات لا يجرؤ على مراجعتها، بيد أنه الآن قد اقتنع ببطلانها، وأنه كان مجرد تائه يجري خلف سراب حوّل حياته إلى أوهام تنتج شقاء لا ينتهي.
دفع المجند الأمريكي «تيري» بورقة وقلم إلى «الجنرال» من خلال كوة بباب الزنزانة، طالبا منه كتابة كلمات الشهادتين كما تُنطق بالعربية لكن بحروف إنجليزية، وبعد أن استلمها منه قرأها بصوت مرتفع في العنبر المظلم، معلنا الوحدانية لله تبارك وتعالى، ومصدقا بكل ما جاء به النبي العربي محمد صلى الله عليه وسلم؛ يقول واصفا ما حدث: «في تلك الليلة قررت بعد نقاشات لا تحصى حول الدين الإسلامي مع السجين المغربي أحمد الراشدي أن أنطق بـ«لا إله إلا الله محمد رسول الله» وعندما نظرت إلى الساعة وقت نطقي بالشهادتين كانت عقاربها تشير إلى الساعة صفر و49 دقيقة (12:49 صباحا)، ورغم أنني أتذكر الوقت فإنني لا أتذكر اليوم بالتحديد، إلا أنه كان في شهر دجنبر عام 2003».
ساد المكانَ جو من الفرح الغامر، باستثناء زملاء المسلم الجديد، فقد اعتبر معظمُهم إقدام «تيري» على هذه الخطوة خيانة، إذ كيف له أن يعتنق ملة مجموعة من الأسرى الذين أقنعت الإدارة الأمريكية شعبها وحلفاءها بأنهم إرهابيون وقتلة، وأن مكانهم الصحيح هو معتقل «غوانتنامو»؟
لكن مصطفى عبد الله (الاسم الذي اختاره «تيري» بعد اعتناقه الإسلام) لم يكن، بعدما عرف طريقه نحو الحياة المستقرة التي بحث عنها، ليعبأ بموقف أحد ولو كان ذا قربى؛ وكيف يعود إلى الظلمات بعدما هداه الله ونوّر بصيرته بالحق؟
وبعد أن تعرف مصطفى على أركان الإسلام، تحمس كثيرا لأداء مناسك العمرة؛ إذ أنه أراد رؤية بيت الله الحرام، ومسجد رسوله عليه الصلاة والسلام؛ يقول بعد أن يسر الله له زيارة المسجد النبوي: «لم أستطع أن أكتم مشاعري وأنا أرى هذا المسجد المعظم للوهلة الأولى، وقد كان حلمي منذ أن أعلنت إسلامي، لكن الصلاة في الروضة الشريفة كانت الحلم الأكبر وبها حصلت فرحتي الكبرى»؛ وأضاف: «لئن كان كثير من المسلمين يتمنون الحصول على هذا الشرف العظيم فإن الله يسر لي هذه الأمنية، وكدت أطير من الفرح وأنا أصلي في هذه البقعة المباركة».
لقد ترك مصطفى الخدمة في الجيش الأمريكي عام 2005، ويعمل حاليا مستشار عضوية في أحد المراكز الإسلامية، لكن حتى بعد رحيله لم يستطع ذهنه أن يطرد صور التعذيب التي يتعرض لها المعتقلون المسلمون المنسيون في «غوانتنامو»، والتي صارت كابوسا يطارده حتى الآن.. «هل فعلا من هم وراء هذه القضبان خطيرون لدرجة أنهم يستحقون كل هذه الإجراءات المكلفة للغاية؟ إن ما يجري في هذا المعتقل لا إنساني، ويتنافى مع أدنى قدر من قواعد حقوق الإنسان» يؤكد مصطفى.
يقال إن النِّعم تبدو أعظم في عين من نالها بعد فقدانها، فحُقّ لأخينا مصطفى أن يفرح بشدة لأن الله أنقذه من الضلال، وأخرجه من الظلمات إلى النور، وحق لنا أن نحمد الله على نعمة الهداية إلى أعظم دين، وأقوم شرعة، وأعدل منهاج.. {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *